فصل الدرجة الثالثة من درجات الفناء :
فناء خواص الأولياء وأئمة المقربين وهو الفناء عن إرادة السوى ، شائما برق الفناء عن إرادة ما سواه ، سالكا سبيل الجمع على ما يحبه ويرضاه ، فانيا بمراد محبوبه منه عن مراده هو من محبوبه ، فضلا عن إرادة غيره ، قد اتحد مراده بمراد محبوبه - أعني المراد الديني الأمري ، لا المراد الكوني القدري - فصار المرادان واحدا .
وليس في العقل اتحاد صحيح إلا هذا ، والاتحاد في العلم والخبر ، فيكون المرادان والمعلومان والمذكوران واحدا ، مع تباين الإرادتين والعلمين والخبرين ، فغاية المحبة اتحاد مراد المحب بمراد المحبوب ، وفناء إرادة المحب في مراد المحبوب .
فهذا الاتحاد والفناء هو اتحاد خواص المحبين وفناؤهم ، فنوا بعبادة محبوبهم عن عبادة ما سواه ، وبحبه وخوفه ورجائه والتوكل عليه ، والاستعانة به ، والطلب منه ، عن حب ما سواه ، وخوفه ورجائه والتوكل عليه .
ومن تحقيق هذا الفناء : أن لا يحب إلا في الله ولا يبغض إلا فيه ، ولا يوالي إلا فيه ، ولا يعادي إلا فيه ، ولا يعطي إلا له ، ولا يمنع إلا له ، ولا يرجو إلا إياه ، ولا يستعين إلا به ، فيكون دينه كله ظاهرا وباطنا لله ، ويكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، فلا يواد من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب الخلق إليه ، بل :
يعادي الذي عادى من الناس كلهم جميعا ولو كان الحبيب المصافيا
وحقيقة ذلك فناؤه عن هوى نفسه وحظوظها بمراضي ربه وحقوقه .
والجامع لهذا كله تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله علما ومعرفة ، وعملا وحالا وقصدا .
وحقيقة هذا النفي والإثبات الذي تضمنته هذه الشهادة هو الفناء والبقاء ، فيفنى عن تأليه ما سواه علما وإقرارا وتعبدا ، ويبقى بتأليهه وحده .
[ ص: 186 ] فهذا الفناء وهذا البقاء هو حقيقة التوحد الذي عليه المرسلون ، وأنزلت به الكتب ، وخلقت لأجله الخليقة ، وشرعت له الشرائع ، وقام عليه سوق الجنة ، وأسس عليه الخلق والأمر .
وحقيقته أيضا البراء والولاء ، البراء من عبادة غير الله ، والولاء لله ، كما قال تعالى
قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده وقال
وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وقال أيضا
ياقوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وقال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم
قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون إلى آخرها ، وهذه براءة منهم ومن معبودهم وسماها براءة من الشرك .
وهي حقيقة المحو والإثبات ، فيمحو محبة ما سوى الله عز وجل من قلبه ، علما وقصدا وعبادة ، كما هي ممحوة من الوجود ، ويثبت فيه إلهيته سبحانه وحده .
وهي حقيقة الجمع والفرق ، فيفرق بين الإله الحق وبين من ادعيت له الإلهية بالباطل ، ويجمع تأليهه وعبادته وحبه وخوفه ورجاءه وتوكله واستعانته على إلهه الحق الذي لا إله سواه .
وهي حقيقة التجريد والتفريد ، فيتجرد عن عبادة ما سواه ، ويفرده وحده بالعبادة ، فالتجريد نفي ، والتفريد إثبات ، ومجموعهما هو التوحيد .
فهذا الفناء والبقاء ، والولاء والبراء ، والمحو والإثبات ، والجمع والتجريد ، والتفريد المتعلق بتوحيد الإلهية هو النافع المثمر ، المنجي ، الذي به تنال السعادة والفلاح .
وأما تعلقه بتوحيد الربوبية - الذي أقر به المشركون عباد الأصنام - فغايته فناء في تحقيق توحيد مشترك بين المؤمنين والكفار ، وأولياء الله وأعدائه ، لا يصير به وحده الرجل مسلما ، فضلا عن كونه عارفا محققا .
وهذا الموضع مما غلط فيه كثير من أكابر الشيوخ ، وأصحاب الإرادة ممن غلظ
[ ص: 187 ] حجابه ، والمعصوم من عصمه الله ، وبالله المستعان ، والتوفيق والعصمة .