فصل
[ ص: 219 ] قال صاحب المنازل :
وسرائر حقيقة التوبة ثلاثة أشياء : تمييز التقية من العزة ، ونسيان الجناية ، والتوبة من التوبة ، لأن التائب داخل في الجميع من قوله تعالى
وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون فأمر التائب بالتوبة .
تمييز التقية من العزة أن يكون المقصود من التوبة تقوى الله ، وهو خوفه وخشيته ، والقيام بأمره ، واجتناب نهيه ، فيعمل بطاعة الله على نور من الله ، يرجو ثواب الله ، ويترك معصية الله على نور من الله ، يخاف عقاب الله ، لا يريد بذلك عز الطاعة ، فإن للطاعة وللتوبة عزا ظاهرا وباطنا ، فلا يكون مقصوده العزة ، وإن علم أنها تحصل له بالطاعة والتوبة ، فمن تاب لأجل العزة فتوبته مدخولة ، وفي بعض الآثار " أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء : قل لفلان الزاهد : أما زهدك في الدنيا فقد تعجلت به الراحة ، وأما انقطاعك إلي فقد اكتسبت به العزة ، ولكن ما عملت فيما لي عليك ؟ قال : يا رب ، وما لك علي بعد هذا ؟ قال : هل واليت في وليا ، أو عاديت في عدوا ؟ " .
يعني أن الراحة والعز حظك ، وقد نلتهما بالزهد والعبادة ، ولكن أين القيام بحقي ، وهو الموالاة في والمعاداة في ؟ .
فالشأن في التفريق في الأوامر بين حظك وحق ربك علما وحالا .
وكثير من الصادقين قد يلتبس عليهم حال نفوسهم في ذلك ، ولا يميزه إلا أولو البصائر منهم ، وهم في الصادقين كالصادقين في الناس .
وأما نسيان الجناية : فهذا موضع تفصيل ، فقد اختلف فيه أرباب الطريق .
فمنهم : من رأى الاشتغال عن ذكر الذنب والإعراض عنه صفحا ، فصفاء الوقت مع الله تعالى أولى بالتائب وأنفع له ، ولهذا قيل : ذكر الجفا في وقت الصفا جفا .
ومنهم من رأى أن الأولى أن لا ينسى ذنبه ، بل لا يزال جاعلا له نصب عينيه يلاحظه كل وقت ، فيحدث له ذلك انكسارا وذلا وخضوعا ، أنفع له من جمعيته وصفاء وقته .
[ ص: 220 ] قالوا : ولهذا نقش
داود الخطيئة في كفه ، وكان ينظر إليها ويبكي .
قالوا : ومتى تهت عن الطريق فارجع إلى ذنبك تجد الطريق .
ومعنى ذلك : أنك إذا رجعت إلى ذنبك انكسرت وذللت ، وأطرقت بين يدي الله عز وجل ، خاشعا ذليلا خائفا ، وهذه طريق العبودية .
والصواب التفصيل في هذه المسألة ، وهو أن يقال : إذا أحس العبد من نفسه حال الصفاء غيما من الدعوى ، ورقيقة من العجب ونسيان المنة ، وخطفته نفسه عن حقيقة فقره ونقصه ، فذكر الذنب أنفع له ، وإن كان في حال مشاهدته منة الله عليه ، وكمال افتقاره إليه ، وفنائه به ، وعدم استغنائه عنه في ذرة من ذراته ، وقد خالط قلبه حال المحبة ، والفرح بالله ، والأنس به ، والشوق إلى لقائه ، وشهود سعة رحمته وحلمه وعفوه ، وقد أشرقت على قلبه أنوار الأسماء والصفات ، فنسيان الجناية والإعراض عن الذنب أولى به وأنفع ، فإنه متى رجع إلى ذكر الجناية توارى عنه ذلك ، ونزل من علو إلى أسفل ، ومن حال إلى حال ، بينهما من التفاوت أبعد مما بين السماء والأرض ، وهذا من حسد الشيطان له ، أراد أن يحطه عن مقامه ، وسير قلبه في ميادين المعرفة والمحبة ، والشوق إلى وحشة الإساءة ، وحصر الجناية .
والأول يكون شهوده لجنايته منة من الله ، من بها عليه ، ليؤمنه بها من مقت الدعوى ، وحجاب الكبر الخفي الذي لا يشعر به ، فهذا لون وهذا لون .
وهذا المحل فيه أمر وراء العبارة ، وبالله التوفيق ، وهو المستعان .