فصل
وأما
التوبة من التوبة فهي من المجملات التي يراد بها حق وباطل ، ويكون مراد المتكلم بها حقا ، فيطلقه من غير تمييز .
فإن التوبة من أعظم الحسنات ، والتوبة من الحسنات من أعظم السيئات ، وأقبح الجنايات ، بل هي كفر ، إن أخذت على ظاهرها ، ولا فرق بين التوبة من التوبة والتوبة من الإسلام والإيمان ، فهل يسوغ أن يقال بالتوبة من الإيمان ؟ .
ولكن مرادهم أن يتوب من رؤية التوبة ، فإنها إنما حصلت له بمنة الله ومشيئته ، ولو خلي ونفسه لم تسمح بها البتة ، فإذا رآها وشهد صدورها منه ووقوعها به ، وغفل عن منة الله عليه تاب من هذه الرؤية والغفلة ، ولكن هذه الرؤية والغفلة ليست هي
[ ص: 221 ] التوبة ، ولا جزءا منها ، ولا شرطا لها ، بل هي جناية أخرى عرضت له بعد التوبة ، فيتوب من هذه الجناية ، كما تاب من الجناية الأولى ، فما تاب إلا من ذنب ، أولا وآخرا ، فكيف يقال : يتوب من التوبة ؟ .
هذا كلام غير معقول ، ولا هو صحيح في نفسه ، بل قد يكون في التوبة علة ونقص ، وآفة تمنع كمالها ، وقد يشعر صاحبها بذلك وقد لا يشعر به ، فيتوب من نقصان التوبة ، وعدم توفيتها حقها .
وهذا أيضا ليس من التوبة ، وإنما هو توبة من عدم التوبة ، فإن القدر الموجود منها طاعة لا يتاب منها ، والقدر المفقود هو الذي يحتاج أن يتوب منه .
فالتوبة من التوبة إنما تعقل على أحد هذين الوجهين .
نعم ، هاهنا وجه ثالث لطيف جدا ، وهو أن من حصل له مقام أنس بالله ، وصفا وقته مع الله ، بحيث يكون إقباله على الله ، واشتغاله بذكر آلائه وأسمائه وصفاته أنفع شيء له ، حتى نزل عن هذه الحالة ، واشتغل بالتوبة من جناية سالفة قد تاب منها ، وطالع الجناية واشتغل بها عن الله ، فهذا نقص ينبغي له أن يتوب إلى الله منه ، وهو توبة من هذه التوبة ، لأنه نزول من الصفاء إلى الجفاء ، والله أعلم .