بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما حكم الخلع فنقول ، وبالله التوفيق : يتعلق بالخلع أحكام بعضها يعم كل طلاق بائن ، وبعضها يخص الخلع أما الذي يعم كل طلاق بائن فنذكره في بيان حكم الطلاق إن شاء الله تعالى ، وأما الذي يخص الخلع ; فالخلع لا يخلو أما إن كان بغير بدل .

وأما إن كان ببدل فإن كان بغير بدل بأن قال : خالعتك ، ونوى الطلاق فحكمه أنه يقع الطلاق ، ولا يسقط شيء من المهر ، وإن كان ببدل فإن كان البدل هو المهر بأن خلعها على المهر فحكمه أن المهر إن كان غير مقبوض أنه يسقط المهر عن الزوج ، وتسقط عنه النفقة الماضية ، وإن كان مقبوضا فعليها أن ترده على الزوج ، وإن كان البدل مالا آخر سوى المهر فحكمه حكم سقوط كل حكم ، وجب بالنكاح قبل الخلع من المهر ، والنفقة الماضية ، ووجوب البدل حتى لو خلعها على عبد أو على مائة درهم ، ولم يذكر شيئا آخر فله ذلك ثم إن كان لم يعطها المهر برئ ، ولم يكن لها عليه شيء سواء كان لم يدخل بها أو كان قد دخل بها ، وإن كان قد أعطاها المهر لم يرجع عليها بشيء سواء كان بعد الدخول بها أو قبل الدخول بها ، وكذلك إذا بارأها على عبد أو على مائة درهم فهو مثل الخلع في جميع ما وصفنا ، وهذا قول أبي حنيفة .

وقال أبو يوسف في المبارأة مثل قول أبي حنيفة .

وقال في الخلع إنه لا يسقط به إلا ما سميا .

وقال محمد لا يسقط في الخلع والمبارأة جميعا إلا ما سميا حتى إنه لو طلقها على مائة درهم - ، ومهرها ألف درهم - فإن كان المهر غير مقبوض فإنها لا ترجع عليه بشيء سواء كان الزوج لم يدخل بها أو كان قد دخل بها في قول أبي حنيفة ، وله عليها مائة درهم ، وعندهما إن كان قبل الدخول بها فلها أن ترجع عليه بنصف المهر ، وذلك خمسمائة ، وله عليها مائة درهم فيصير قدر المائة قصاصا فيرجع عليه بأربعمائة ، وإن كان بعد الدخول فلها أن ترجع عليه بكل المهر إلا قدر المائة فترجع عليه بتسعمائة ، وإن كان المهر مقبوضا فله عليها المائة لا غير ، وليس له أن يرجع عليها بشيء من المهر سواء كان قبل الدخول بها أو بعده في قول أبي حنيفة ، وعندهما إن كان قبل الدخول يرجع إلى الزوج عليها بنصف المهر ، وإن كان بعده لا يرجع عليها بشيء ، وهكذا الجواب في المبارأة عند محمد ، والحاصل أن ههنا ثلاث مسائل : الخلع ، والمبارأة والمبارأة والطلاق على مال ، ولا خلاف بينهم في الطلاق على مال أنه لا يبرأ به من سائر الحقوق التي وجبت لها بسبب النكاح ، ولا خلاف أيضا في سائر الديون التي وجبت لا بسبب النكاح .

وأنها لا تسقط بهذه التصرفات ، وإنما الخلاف بينهم في الخلع ، والمبارأة ، واتفق جواب أبي حنيفة ، وأبي يوسف في المبارأة ، واختلف جوابهما في الخلع ، واتفق جواب أبي يوسف ، ومحمد في الخلع ، واختلف في المبارأة فأبو يوسف مع أبي حنيفة في المبارأة ، ومع محمد في الخلع .

وجه قول محمد إن الخلع طلاق بعوض فأشبه الطلاق على مال ، والجامع بينهما أن حق الإنسان لا يسقط من غير إسقاطه ، ولم يوجد في الموضعين إلا إسقاط ما سميا ، فلا يسقط ما لم تجز به التسمية ، ولهذا لم يسقط به سائر الديون التي لم تجب بسبب النكاح .

وكذا لا تسقط نفقة العدة إلا بالتسمية ، وإن كانت من أحكام النكاح كذا هذا وجه قول أبي يوسف ، وهو الفرق بين الخلع ، والمبارأة أن المبارأة صريح في إيجاب البراءة ; لأنها إثبات البراءة نصا فيقتضي ثبوت البراءة مطلقا فيظهر في جميع الحقوق الثابتة بينهما بسبب النكاح ، .

فأما الخلع فليس نصا في إيجاب البراءة ; لأنه ليس في لفظه ما ينبئ عن البراءة ، وإنما تثبت البراءة مقتضاه ، والثابت بطريق الاقتضاء لا يكون ثابتا من جميع الوجوه فثبتت البراءة بقدر ما وقعت التسمية لا غير ، ولأبي حنيفة أن الخلع في معنى المبارأة ; لأن المبارأة مفاعلة من البراءة [ ص: 152 ] والإبراء إسقاط فكان إسقاطا من كل واحد من الزوجين الحقوق المتعلقة بالعقد المتنازع فيه كالمتخاصمين في الديون إذا اصطلحا على مال سقط بالصلح جميع ما تنازعا كذا بالمبارأة ، ، والخلع مأخوذ من الخلع ، وهو النزع ، والنزع إخراج الشيء من الشيء فمعنى قولنا خلعها أي : أخرجها من النكاح وذلك بإخراجها من سائر الأحكام بالنكاح ، وذلك إنما يكون بسقوط الأحكام الثابتة بالنكاح ، وهو معنى البراءة فكان الخلع في معنى البراءة .

، والعبرة في العقود للمعاني لا للألفاظ وقد خرج الجواب عما ذكره أبو يوسف .

وأما قول محمد إنه لم يوجد منها إسقاط غير المسمى فنقول : إن لم يوجد نصا فقد وجد دلالة لما ذكرنا أن لفظ الخلع دليل عليه ; ولأن قصدهما من الخلع قطع المنازعة ، وإزالة الخلف بينهما ، والمنازعة ، والخلف إنما وقعا في حقوق النكاح ، ولا تندفع المنازعة ، والخلف إلا بإسقاط حقوقه فكان ذلك تسمية منها لسائر الحقوق المتعلقة بالنكاح دلالة بخلاف سائر الديون ; لأنه لا تعلق لها بالنكاح ، ولم تقع المنازعة فيها ، ولا في سببها ، فلا ينصرف الإسقاط إليها بخلاف الطلاق على مال ; لأنه لا يدل على إسقاط الحقوق الواجبة بالنكاح لا نصا ، ولا دلالة .

وأما نفقة العدة ; فلأنها لم تكن واجبة قبل الخلع ، فلا يتصور إسقاطها بالخلع بخلاف النفقة الماضية ; لأنها كانت واجبة قبل الخلع بفرض القاضي أو بالتراضي فكان الخلع إسقاطا بعد الوجوب فصح .

ولو خلعها على نفقة العدة صح ، ولا تجب النفقة ، ولو أبرأت الزوج عن النفقة في حال قيام النكاح لا يصح الإبراء ، وتجب النفقة ; لأن النفقة في النكاح تجب شيئا فشيئا على حسب حدوث الزمان يوما فيوما فكان الإبراء عنها إبراء قبل الوجوب فلم يصح ، .

فأما نفقة العدة فإنما تجب عند الخلع فكان الخلع على النفقة مانعا من وجوبها ، ولا يصح الخلع على السكنى ، والإبراء عنه ; لأن السكنى تجب حقا لله تعالى قال الله تعالى { ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } ، فلا يملك العبد إسقاطه ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية