بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
وعلى هذا يخرج الصلاة في السفينة إذا صلى فيها قاعدا بركوع وسجود أن يجوز إذا كان عاجزا عن القيام والسفينة جارية ، ولو قام يدور رأسه ، وجملة الكلام في الصلاة في السفينة أن السفينة لا تخلو أما إن كانت واقفة أو سائرة ، فإن كانت واقفة في الماء أو كانت مستقرة على الأرض جازت الصلاة فيها وإن أمكنه الخروج منها ; لأنها إذا استقرت كان حكمها حكم الأرض ، ولا تجوز إلا قائما بركوع وسجود متوجها إلى القبلة ; لأنه قادر على تحصيل الأركان والشرائط .

وإن كانت مربوطة غير مستقرة على الأرض فإن أمكنه الخروج منها لا تجوز الصلاة فيها قاعدا ; لأنها إذا لم تكن مستقرة على الأرض فهي بمنزلة الدابة ، ولا يجوز أداء الفرض على الدابة مع إمكان النزول كذا هذا وإن كانت سائرة فإن أمكنه الخروج إلى الشط يستحب له الخروج إليه ; لأنه يخاف دوران الرأس في السفينة فيحتاج إلى القعود ، وهو آمن عن الدوران في الشط ، فإن لم يخرج وصلى فيها قائما بركوع وسجود أجزأه لما روي عن ابن سيرين أنه قال : صلى بنا أنس رضي الله عنه في السفينة قعودا ، ولو شئنا لخرجنا إلى الحد ; ولأن السفينة بمنزلة الأرض ; لأن سيرها غير مضاف إليه فلا يكون منافيا للصلاة ، بخلاف الدابة فإن سيرها مضاف إليه ، وإذا دارت السفينة وهو يصلي يتوجه إلى القبلة حيث دارت ; لأنه قادر على تحصيل هذا الشرط من غير تعذر ، فيجب عليه تحصيله ، بخلاف الدابة فإن هناك لا إمكان وأما إذا صلى فيها قاعدا بركوع وسجود فإن كان عاجزا عن القيام - بأن كان يعلم أنه يدور رأسه لو قام - وعن الخروج إلى الشط - أيضا - يجزئه بالاتفاق ; لأن أركان الصلاة تسقط بعذر العجز ، وإن كان قادرا على القعود بركوع وسجود فصلى بالإيماء لا يجزئه بالاتفاق ; لأنه لا عذر وأما إذا كان قادرا على القيام أو على الخروج إلى الشط فصلى قاعدا بركوع وسجود أجزأه في قول أبي حنيفة - وقد أساء - ، وعند أبي يوسف ومحمد لا يجزئه .

( واحتجا ) بقول النبي صلى الله عليه وسلم : { فإن لم تستطع فقاعدا } ، وهذا مستطيع للقيام ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الحبشة أمره أن يصلي في السفينة قائما إلا أن يخاف الغرق ، ولأن القيام ركن في الصلاة فلا يسقط إلا بعذر ولم يوجد .

( ولأبي ) حنيفة ما روينا من حديث أنس رضي الله عنه وذكر الحسن بن زياد في كتابه بإسناده عن سويد بن غفلة أنه قال : سألت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما عن الصلاة في [ ص: 110 ] السفينة فقالا : إن كانت جارية يصلي قاعدا ، وإن كانت راسية يصلي قائما من غير فصل بين ما إذا قدر على القيام أو لا ; ولأن سير السفينة سبب لدوران الرأس غالبا ، والسبب يقوم مقام المسبب إذا كان في الوقوف على المسبب حرج ، أو كان المسبب بحال يكون عدمه مع وجود السبب في غاية الندرة ، فألحقوا النادر بالعدم ، ولهذا أقام أبو حنيفة المباشرة الفاحشة مقام خروج المذي ، لما أن عدم الخروج عند ذلك نادر ولا عبرة بالنادر ، وههنا عدم دوران الرأس في غاية الندرة فسقط اعتباره وصار كالراكب على الدابة وهي تسير أنه يسقط القيام لتعذر القيام عليها غالبا ، كذا هذا ، والحديث محمول على الندب دون الوجوب ، فإن صلوا في السفينة بجماعة جازت صلاتهم ، ولو اقتدى به رجل في سفينة أخرى فإن كانت السفينتان مقرونتين - جاز لأنهما بالاقتران صارتا كشيء واحد ، ولو كانا في سفينة واحدة جاز كذا هذا ، وإن كانتا منفصلتين لم يجز لأن تخلل ما بينهما بمنزلة النهر وذلك يمنع صحة الاقتداء ، وإن كان الإمام في سفينة والمقتدون على الحد والسفينة واقفة فإن كان بينه وبينهم طريق أو مقدار نهر عظيم - لم يصح اقتداؤهم به لأن الطريق ومثل هذا النهر يمنعان صحة الاقتداء لما بينا في موضعه ، ومن وقف على سطح السفينة يقتدي بالإمام في السفينة صح اقتداؤه إلا أن يكون أمام الإمام ; لأن السفينة كالبيت ، واقتداء الواقف على السطح بمن هو في البيت صحيح إذا لم يكن أمام الإمام ، ولا يخفى عليه حاله كذا ههنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية