بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما بيان حكم الحوالة .

فنقول وبالله التوفيق : الحوالة لها أحكام ( منها ) : براءة المحيل ، وهذا عند أصحابنا الثلاثة ، وقال زفر : الحوالة لا توجب براءة المحيل ، والحق في ذمته بعد الحوالة ، على ما كان عليه قبلها ، كالكفالة سواء .

( وجه ) قوله أن الحوالة شرعت وثيقة للدين ، كالكفالة ، وليس من الوثيقة براءة الأول ، بل الوثيقة في مطالبة الثاني ، مع بقاء الدين على حاله في ذمة الأول من غير تغيير ، كما في الكفالة سواء .

( ولنا ) أن الحوالة مشتقة من التحويل وهو النقل ، فكان معنى الانتقال لازما فيها ، والشيء إذا انتقل إلى موضع لا يبقى في المحل الأول ضرورة ، ومعنى الوثيقة يحصل بسهولة الوصول من حيث الملاءة والإنصاف .

ولو كفل بشرط براءة الأصيل ; جاز وتكون حوالة ; لأنه أتى بمعنى الحوالة ، واختلف مشايخنا المتأخرون في كيفية النقل ، مع اتفاقهم على ثبوت أصله موجبا للحوالة ، قال بعضهم : إنها نقل المطالبة والدين جميعا ، وقال بعضهم : إنها نقل المطالبة فحسب ، فأما أصل الدين فباق في ذمة المحيل .

( وجه ) قول الأولين : دلالة الإجماع والمعقول ( أما ) دلالة الإجماع ; فلأنا أجمعنا على أنه لو أبرأ المحال عليه من الدين ، أو وهب الدين منه ; صحت البراءة والهبة ، ولو أبرأ المحيل من الدين أو وهب الدين منه ; لا يصح .

ولولا أن الدين انتقل إلى ذمة المحال عليه ، وفرغت ذمة المحيل عن الدين ; لما صح الأول ; لأن الإبراء عن الدين ، وهبة الدين ولا دين محال ، ولصح الثاني ; لأن الإبراء عن دين ثابت ، وهبته منه صحيح - وإن تأخرت المطالبة - كالإبراء عن الدين المؤجل .

( وأما ) المعقول ; فلأن الحوالة توجب النقل ; لأنها [ ص: 18 ] مشتقة من التحويل ، وهو النقل ; فيقتضي نقل ما أضيف إليه ، وقد أضيف إلى الدين لا إلى المطالبة ; لأنه إذا قال : أحلت بالدين ، أو أحلت فلانا بدينه ; فيوجب انتقال الدين إلى المحال عليه ، إلا أنه إذا انتقل أصل الدين إليه ; تنتقل المطالبة ; لأنها تابعة .

( وجه ) قول الآخرين : دلالة الإجماع والمعقول ( أما ) دلالة الإجماع : فإن المحيل إذا قضى دين الطالب بعد الحوالة قبل أن يؤدي المحال عليه ; لا يكون متطوعا ، ويجبر على القبول .

ولو لم يكن عليه دين لكان متطوعا ، فينبغي أن لا يجبر على القبول ، كما إذا تطوع أجنبي بقضاء دين إنسان على غيره ، وكذلك المحال : لو أبرأ المحال عليه عن دين الحوالة ; لا يرتد برده .

ولو وهبه منه ; يرتد برده ، كما إذا أبرأ الطالب الكفيل ، أو وهب منه .

ولو انتقل الدين إلى ذمة المحال عليه ; لما اختلف حكم الإبراء والهبة ، ولا ارتدا جميعا بالرد ، كما لو أبرأ الأصيل ، أو وهب منه ، وكذلك المحال لو أبرأ المحال عليه عن دين الحوالة ; لا يرجع على المحيل ، وإن كانت الحوالة بأمره كما في الكفالة .

ولو وهب الدين منه ; له أن يرجع عليه ; إذا لم يكن للمحيل عليه دين ، كما في الكفالة .

ولو كان له عليه دين ; يلتقيان قصاصا كالكفالة سواء ، فدلت هذه الأحكام على التسوية بين الحوالة والكفالة ، ثم إن الدين في باب الكفالة ثابت في ذمة الأصيل ، فكذا في الحوالة .

( وأما ) المعقول : فهو أن الحوالة شرعت وثيقة للدين - بمنزلة الكفالة - وليس من الوثيقة إبراء الأول ، بل الوثيقة في نقل المطالبة مع قيام أصل الدين في ذمة المحيل .

( ومنها ) : ثبوت ولاية المطالبة للمحال على المحال عليه بدين في ذمته ، أو في ذمة المحيل على حسب ما ذكرنا من اختلاف المشايخ فيه ; لأن الحوالة أوجبت النقل إلى ذمة المحال عليه بدين في ذمته ، إما نقل الدين والمطالبة جميعا ، وإما نقل المطالبة لا غير ، وذلك يوجب حق المطالبة للمحال على المحال عليه .

( ومنها ) : ثبوت حق الملازمة للمحال عليه على المحيل إذا لازمه المحال فكلما لازمه المحال ; فله أن يلازم المحيل ليتخلص عن ملازمة المحال ، وإذا حبسه : له أن يحبسه إذا كانت الحوالة بأمر المحيل ، ولم يكن على المحال عليه دين مثله للمحيل ; لأنه هو الذي أوقعه في هذه العهدة ; فعليه تخليصه منها ، وإن كانت الحوالة بغير أمره ، أو كانت بأمره ، ولكن للمحيل على المحال عليه دين مثله ، والحوالة مقيدة ; لم يكن للمحال عليه أن يلازم المحيل إذا لوزم ، ولا أن يحبسه إذا حبس ; لأن الحوالة إذا كانت بغير أمر المحيل ; كان المحال عليه متبرعا ، وإن كان للمحيل عليه دين مثله ، وقيد الحوالة به فلو لازمه المحال عليه ; لكان للمحيل أن يلازمه أيضا ; فلا يفيد ، والله عز وجل أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية