( وأما ) الذي يرجع إلى المرهون .
فأنواع ( منها ) : أن يكون محلا قابلا للبيع ، وهو أن يكون موجودا وقت العقد مالا مطلقا متقوما مملوكا معلوما مقدور التسليم ، ونحو ذلك فلا يجوز رهن ما ليس بموجود عند العقد
ولا رهن ما يحتمل الوجود والعدم ، كما إذا رهن ما يثمر نخيله العام أو ما تلد أغنامه السنة أو ما في بطن هذه الجارية ، ونحو ذلك ولا
رهن الميتة والدم ; لانعدام ماليتهما ، ولا
رهن صيد الحرم والإحرام ; لأنه ميتة ، ولا رهن الحر ; لأنه ليس بمال أصلا ، ولا رهن أم الولد والمدبر المطلق والمكاتب ; لأنهم أحرار من وجه فلا يكونون أموالا مطلقة ، ولا
رهن الخمر والخنزير من المسلم .
سواء كان العاقدان مسلمين أو أحدهما مسلم ; لانعدام مالية الخمر والخنزير في حق المسلم ; وهذا ; لأن الرهن إيفاء الدين والارتهان استيفاؤه ، ولا يجوز للمسلم إيفاء الدين من الخمر واستيفاؤه ; إلا أن الراهن إذا كان ذميا ، كانت الخمر مضمونة على المسلم المرتهن ; لأن الرهن إذا لم يصح كانت الخمر بمنزلة المغصوب في يد المسلم وخمر الذمي مضمون على المسلم بالغصب ، وإذا كان الراهن مسلما والمرتهن ذميا ، لا تكون مضمونة على أحد .
( وأما ) في حق أهل الذمة فيجوز رهن الخمر والخنزير وارتهانهما منهم ; لأن ذلك مال متقوم في حقهم بمنزلة الخل والشاة عندنا ، ولا
رهن المباحات من الصيد والحطب والحشيش ونحوها ; لأنها ليست بمملوكة في أنفسها .
( فأما ) كونه مملوكا للراهن فليس بشرط لجواز الرهن حتى يجوز
رهن مال الغير بغير إذنه بولاية شرعية ، كالأب والوصي يرهن مال الصبي بدينه وبدين نفسه ; لأن الرهن لا يخلو .
( إما ) أن يجري مجرى الإيداع .
( وإما ) أن يجري مجرى المبادلة ، والأب يلي كل واحد منهما في مال الصغير ، فإنه يبيع مال الصغير بدين نفسه ، ويودع مال الصغير فإن هلك الرهن في يد المرتهن قبل أن يفتكه الأب ، هلك بالأقل من قيمته ومما رهن به ; ; لأن الرهن وقع صحيحا وهذا حكم الرهن الصحيح وضمن الأب قدر ما سقط من الدين بهلاك الرهن ; ; لأنه قضى دين نفسه بمال ولده فيضمن ، فلو أدرك الولد والرهن قائم عند المرتهن ، فليس
[ ص: 136 ] له أن يسترده قبل قضاء القاضي ; لما ذكرنا أن الرهن وقع صحيحا لوقوعه عن ولاية شرعية ، فلا يملك الولد نقضه ، ولكن يؤمر الأب بقضاء الدين ورد الرهن على ولده ; لزوال ولايته بالبلوغ .
ولو قضى الولد دين أبيه وافتك الرهن ، لم يكن متبرعا ، ويرجع بجميع ما قضى على أبيه ; لأنه مضطر إلى قضاء الدين ، إذ لا يمكنه الوصول إلى ملكه إلا بقضاء الدين كله ، فكان مضطرا فيه ، فلم يكن متبرعا بل يكون مأمورا بالقضاء من قبل الأب دلالة ، فكان له أن يرجع عليه بما قضى ، كما لو استعار من إنسان عبده ; ليرهنه بدين نفسه فرهن ، ثم إن المعير قضى دين المستعير وافتك الرهن أنه يرجع بجميع ما قضى على المستعير ; لما قلنا كذا هذا ، وكذلك حكم الوصي في جميع ما ذكرنا حكم الأب ، وإنما يفترقان في فصل آخر ، وهو أنه يجوز للأب أن يرتهن مال الصغير بدين ثبت على الصغير ، وإذا هلك يهلك بالأقل من قيمته ومن الدين ، وإذا أدرك الولد ليس له أن يسترده ; إذا كان الأب يشهد على الارتهان ، وإن كان لم يشهد على ذلك ، لم يصدق عليه بعد الإدراك إلا بتصديق الولد ، ويجوز له أن يرهن ماله عند ولده الصغير بدين للصغير عليه ويحبسه لأجل الولد ، وإذا هلك بعد ذلك فيهلك بالأقل من قيمته ومن الدين ; إذا كان أشهد عليه قبل الهلاك ، وإن كان لم يشهد عليه قبل الهلاك ، لم يصدق إلا أن يصدقه الولد بعد الإدراك ، والوصي لو فعل هذا من اليتيم ، لا يجوز رهنه ولا ارتهانه ، أما على أصل
nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد فلا يشكل ; ; لأنه لا يرى بيع مال اليتيم من نفسه ولا شراء ماله لنفسه أصلا ، فكذلك الرهن ، وعلى قولهما ; إن كان يجوز البيع والشراء ، لكن إذا كان خيرا لليتيم ولا خير له في الرهن ; لأنه يهلك أبدا بالأقل من قيمته ومن الدين ، فلم يكن فيه خير لليتيم فلم يجز ، وكذلك يجوز رهن مال الغير بإذنه .
كما لو استعار من إنسان شيئا ; ليرهنه بدين على المستعير ; لما ذكرنا أن الرهن : إيفاء الدين وقضاؤه ، والإنسان بسبيل من أن يقضي دين نفسه بمال غيره بإذنه ، ثم إذا أذن المالك بالرهن فإذنه بالرهن لا يخلو إما إن كان مطلقا ، وإما إن كان مقيدا ، فإن كان مطلقا فللمستعير أن يرهنه بالقليل والكثير وبأي جنس شاء ، وفي أي مكان كان ومن أي إنسان أراد ; ولأن العمل بإطلاق اللفظ أصل ، وإن كان مقيدا بأن سمى قدرا أو جنسا أو مكانا أو إنسانا يتقيد به ، حتى لو أذن له أن يرهنه بعشرة ، لم يجز له أن يرهنه بأكثر منها ولا بأقل ; ; لأن المتصرف بإذن يتقيد تصرفه بقدر الإذن ، والإذن لم يتناول الزيادة ، فلم يكن له أن يرهن بالأكثر ولا بالأقل أيضا ; لأن المرهون مضمون والمالك إنما جعله مضمونا بالقدر ، وقد يكون له في ذلك غرض صحيح فكان التقييد به مفيدا ، وكذلك لو أذن أن يرهنه بجنس ، لم يجز له أن يرهنه بجنس آخر ; لأن قضاء الدين من بعض الأجناس قد يكون أيسر من بعض ، فكان التقييد بالجنس مفيدا .
وكذا إذا أذن له أن يرهنه
بالكوفة ، لم يجز له أن يرهنه
بالبصرة ; لأن التقييد بمكان دون مكان مفيد ، فيتقيد بالمكان المذكور ، وكذا إذا أذن له أن يرهنه من إنسان بعينه ، لم يجز له أن يرهنه من غيره ; لأن الناس متفاوتون في المعاملات فكان التعيين مفيدا ، فإن خالف في شيء مما ذكرنا ، فهو ضامن لقيمته إذا هلك ; لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه فصار غاصبا ، وللمالك أن يأخذ الرهن من يد المرتهن ; لأن الرهن لم يصح ، فبقي المرهون في يده بمنزلة المغصوب فكان له أن يأخذه منه ، وليس لهذا المستعير أن ينتفع بالمرهون لا قبل الرهن ولا بعد الانفكاك فإن فعل ضمن ; ; لأنه لم يؤذن له إلا بالرهن ، فإن انتفع به قبل أن يرهنه ، ثم رهنه بمثل قيمته ، برئ من الضمان حين رهن ، ذكره في الأصل ; لأنه لما انتفع به فقد خالف ، ثم لما رهنه فقد عاد إلى الوفاق فيبرأ عن الضمان ، كالمودع إذا عاد إلى الوفاق بعد ما خالف في الوديعة ، بخلاف ما إذا استعار العين لينتفع بها فخالف ، ثم عاد إلى الوفاق إنه لا يبرأ عن الضمان ; لأن المستعير للانتفاع ليست يده يد المالك بل يد نفسه ، حيث تعود المنفعة إليه فلم تكن بالعود إلى الوفاق رادا للمال إلى يد المالك ، فلا يبرأ عن الضمان .
( فأما ) المستعير للرهن فيده قبل الرهن يد المالك ، فإذا عاد إلى الوفاق ، فقد رد المال إلى يد المالك فيبرأ عن الضمان وإذا قبض المستعير العارية فهلك في يده قبل أن يرهنه ، فلا ضمان عليه ; لأنه هلك في قبض العارية لا في قبض الرهن ، وقبض العارية قبض أمانة لا قبض ضمان ، وكذلك إذا هلك في يده بعد ما افتكه من يد المرتهن ; لأنه بالافتكاك من يد المرتهن عاد عارية فكان الهلاك في قبض العارية ولو وكل الراهن يعني المستعير بقبض الرهن من المرتهن أحدا فقبضه فهلك في يد القابض ، فإن كان القابض في عياله ، لم يضمن ; لأن يده كيده ،
[ ص: 137 ] والمالك رضي بيده ، وإن لم يكن في عياله ضمن ; لأن يده ليست كيده فلم يكن المالك راضيا بيده ، وإن هلك في يد المرتهن ، وقد رهن على الوجه الذي أذن فيه ، ضمن الراهن للمعير قدر ما سقط عنه من الدين بهلاك الرهن ; لأنه قضى دين نفسه من مال الغير بإذنه بالرهن ، إذ الرهن قضاء الدين ويتعذر القضاء عند الهلاك .
وكذلك لو دخله عيب فسقط بعض الدين ، ضمن الراهن ذلك القدر ; لأنه قضى ذلك القدر من دينه بمال الغير فيضمن ذلك القدر ، فكان المستعير بمنزلة رجل عنده وديعة لإنسان فقضى دين نفسه بمال الوديعة بإذن صاحبها ، فما قضى يكون مضمونا عليه وما لم يقبض يكون أمانة في يده ، فإن
عجز الراهن عن الافتكاك فافتكه المالك ، لا يكون متبرعا ويرجع بجميع ما قضى على المستعير ، وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=15071الكرخي أنه يرجع بقدر ما كان يملك الدين به ، ولا يرجع بالزيادة عليه ويكون متبرعا فيها ; حتى لو كان المستعير رهن بألفين وقيمة الرهن ألف فقضى المالك ألفين ، فإنه يرجع على المستعير بألفين وعلى ما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=15071الكرخي يرجع عليه بالألف .
( وجه ) قول
nindex.php?page=showalam&ids=15071الكرخي أن المضمون على المستعير قدر الدين ، بدليل أنه لا يضمن عند الهلاك إلا قدر الدين ، فإذا قضى المالك الزيادة على المقدر ، كان متبرعا فيها .
( وجه ) القول الآخر أن المالك مضطر إلى قضاء كل الدين الذي رهن به ; لأنه علق ماله عند المرتهن بحيث لا فكاك له إلا بقضاء كل الدين ، فكان مضطرا في قضاء الكل فكان مأذونا فيه من قبل الراهن دلالة ، كأنه وكله بقضاء دينه فقضاه المعير من مال نفسه .
ولو كان كذلك ، لرجع عليه بما قضى كذا هذا ، وليس للمرتهن أن يمتنع من قبض الدين من المعير ، ويجبر على القبض ويسلم الرهن إليه ; لأن له ولاية قضاء الدين لتخلص ملكه وإزالة العلق عنه ، فلا يكون للمرتهن ولاية الامتناع من القبض والتسليم ، فإن
اختلف الراهن والمعير وقد هلك الرهن فقال المعير : هلك في يد المرتهن وقال المستعير : هلك قبل أن أرهنه أو بعد ما افتكيته فالقول قول الراهن مع يمينه ; لأن الضمان إنما وجب على المستعير ; لكونه قاضيا دين نفسه من مال الغير بإذنه وهو ينكر القضاء فكان القول قول المنكر .
ولا يجوز
رهن المجهول ولا يجوز التسليم ونحو ذلك مما لا يجوز بيعه ، والأصل فيه أن كل ما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه ، وقد ذكرنا جملة ذلك في كتاب البيوع .