( وأما ) الحكم الثالث : وهو وجوب
تسليم المرهون عند الافتكاك ، فيتعلق به معرفة وقت وجوب التسليم فنقول : وقت وجوب التسليم ما بعد قضاء الدين ، يقضي الدين أولا ثم يسلم الرهن ; لأن الرهن وثيقة ، وفي تقديم تسليمه إبطال الوثيقة ; ولأنه لو سلم الرهن أولا فمن الجائز أن يموت الراهن قبل قضاء الدين ; فيصير المرتهن كواحد من الغرماء فيبطل حقه ، فلزم تقديم قضاء الدين على تسليم الرهن ، إلا أن المرتهن إذا طلب الدين ، يؤمر بإحضار الرهن أولا ويقال له : أحضر الرهن ; إذا كان قادرا على الإحضار من غير ضرر زائد ، ثم يخاطب الراهن بقضاء الدين ; لأنه لو خوطب بقضائه من غير إحضار الرهن ومن الجائز أن الرهن قد هلك وصار المرتهن مستوفيا دينه من الرهن فيؤدي إلى الاستيفاء مرتين ، وكذلك المشتري يؤمر بتسليم الثمن أولا ; إذا كان دينا ، ثم يؤمر البائع بتسليم المبيع ; لما ذكرنا في كتاب البيوع ، إلا أن البائع إذا طالبه بتسليم الثمن ، يقال له : أحضر المبيع ; لجواز أن المبيع قد هلك ، وسواء كان عين الرهن قائما في يد المرتهن ، أو كان في يده بدله بعد أن كان البدل من خلاف جنس الدين ، نحو ما إذا كان المرتهن مسلطا على بيع الرهن فباعه بخلاف جنس الدين أو قتل الرهن خطأ ، وقضي بالدية من خلاف جنس الدين ، فطالبه المرتهن بدينه كان للراهن أن لا يدفع حتى يحضره المرتهن ; لأن البدل قائم مقام المبدل فكان المبدل قائما .
ولو كان قائما ، كان له أن يمنع ما لم يحضره المرتهن فكذلك إذا قام البدل مقامه .
ولو كان الرهن على يدي عدل وجعلا للعدل أن يضعه عند من أحب وقد وضعه عند رجل ، فطلب المرتهن دينه يجبر الراهن على قضاء الدين ولا يكلف المرتهن بإحضار الرهن ; لأن قضاء الدين واجب على الراهن على سبيل التضييق ، إلا أنه رخص له التأخير إلى غاية إحضار الدين عند القدرة على الإحضار ، وهنا لا قدرة للمرتهن على إحضاره ; لأن للعدل أن يمنعه عنه .
ولو أخذ من يده جبرا ، كان غاصبا
[ ص: 154 ] وإلى هذا المعنى أشار
nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد في الكتاب فقال : كيف يؤمر بإحضار شيء لو أخذه كان غاصبا ؟ وإذا سقط التكليف بالإحضار ، زالت الرخصة فيخاطب بقضاء الدين ، وكذلك
إذا وضعا الرهن على يد عدل ، فغاب العدل بالرهن ولا يدرى أين هو ، لا يكلف المرتهن بإحضار الرهن ، ويجبر الراهن على قضاء الدين لما ذكرنا .
ولو كان الرهن في يد المرتهن فالتقيا في بلد آخر ، فطالب المرتهن الراهن بقضاء دينه ، فإن كان الدين مما له حمل ومؤنة ، يجبر الراهن على قضاء الدين ، ولا يجبر المرتهن على إحضار الرهن ; لما ذكرنا أن قضاء الدين واجب عليه على سبيل التضييق والتأخير إلى وقت الإحضار للضرورة التي ذكرناها عند القدرة على الإحضار من غير ضرر زائد ، والمرتهن هنا لا يقدر على الإحضار إلا بالمسافرة بالرهن ، أو بنقله من مكان العقد وفيه ضرر بالمرتهن فسقط التكليف بالإحضار .
ولو
ادعى الراهن هلاك الرهن فقال المرتهن : لم يهلك فالقول قول المرتهن مع يمينه ; لأن الرهن كان قائما ، والأصل في الثابت بقاؤه ، فالمرتهن يستصحب حالة القيام ، والراهن يدعي زوال تلك الحالة ، والقول قول من يدعي الأصل ; لأن الظاهر شاهد له ; ولأن الراهن بدعوى الهلاك يدعي على المرتهن استيفاء الدين ، وهو منكر ; فكان القول قوله مع يمينه ، ويحلف على البتات ; لأنه يحلف على فعل نفسه وهو القبض السابق ; لأن المرتهن لا يصير مستوفيا بالهلاك ; لأنه لا صنع له فيه بل بالقبض السابق وذلك فعله ، بخلاف ما إذا كان الرهن عند عدل فغاب بالرهن ; فاختلف الراهن والمرتهن في هلاك الرهن أن هناك يحلف المرتهن على العلم لا على البتات ; لأن ذلك تحليف على فعل غيره وهو قبض العدل فتعذر التحليف على البتات فيحلف على العلم ، كما
لو ادعى الراهن أنه أوفى الدين وكيل المرتهن ، والمرتهن ينكر ، أنه يحلف على العلم ; لما ذكرنا كذا هذا ، وإن كان الرهن مما لا حمل له ولا مؤنة ، فالقياس أنه يجبر على قضاء الدين ، وفي الاستحسان لا يجبر ما لم يحضر المرتهن الرهن ; لأنه ليس في إحضاره ضرر زائد وعلى هذا الأصل مسائل في الزيادات .
ولو
اشترى شيئا ولم يقبضه ولم يسلم الثمن حتى لقيه البائع في غير مصره الذي وقع البيع فيه ، فطالبه بالثمن وأبى المشتري حتى يحضر المبيع لا يجبر المشتري على تسليم الثمن حتى يحضر البائع المبيع ، سواء كان له حمل ومؤنة أو لم يكن ، فرق بين البيع والرهن ووجه الفرق أن البيع معاوضة مطلقة ، والمساواة في المعاوضات المطلقة مطلوبة عادة وشريعة ، ولا تتحقق المساواة من غير إحضار المبيع بخلاف الرهن ; لأنه ليس بمعاوضة مطلقة وإن كان فيه معنى المعاوضة ، فلا يلزم اعتبار المساواة بين المرهون والمرهون به وهو الدين في هذا الحكم .