بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما بيان مواضع السجدة في القرآن فنقول : إنها في أربعة عشر موضعا من القرآن ، أربع في النصف الأول في آخر الأعراف ، وفي الرعد ، وفي النحل ، وفي بني إسرائيل ، وعشر في النصف الآخر في مريم ، وفي الحج في الأولى ، وفي الفرقان ، وفي النمل ، وفي الم تنزيل السجدة ، وفي ( ص ) وفي حم السجدة ، وفي النجم ، وفي إذا السماء انشقت ، وفي اقرأ .

وقد اختلف العلماء في ثلاثة مواضع منها : أحدها ، أن في سورة الحج عندنا سجدة واحدة وعند الشافعي سجدتان إحداهما في قوله تعالى { اركعوا واسجدوا } ، واحتج بما روي عن عقبة بن عامر الجهني أنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم { أفي سورة الحج سجدتان ؟ قال : نعم ، أو قال : فضلت الحج بسجدتين من لم يسجدهما لم يقرأها } .

وهكذا روي عن عمر وعلي وابن عمر وأبي الدرداء رضي الله عنهم أنهم قالوا : فضلت سورة الحج بسجدتين .

ولنا ما روي عن أبي رضي الله عنه أنه { عد السجدات التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد في الحج سجدة واحدة } ، وقال عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم : سجدة التلاوة في الحج هي الأولى والثانية سجدة الصلاة ، وهو تأويل الحديث وهذا ; لأن السجدة متى قرنت بالركوع كانت عبارة عن سجدة الصلاة كما في قوله تعالى { واسجدي واركعي } ، والثاني أن في سورة ( ص ) عندنا سجدة التلاوة وعند الشافعي سجدة الشكر .

وفائدة الخلاف أنه لو تلاها في الصلاة سجد عندنا ، وعنده لا يسجدها واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه { قرأ آية السجدة في ص وسجدها ثم قال : سجدها داود توبة ونحن نسجدها شكرا } .

وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : { قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر سورة ص فنزل وسجد وسجد الناس معه ، فلما كان في الجمعة الثانية قرأها فتشوف الناس للسجود فنزل وسجد وسجد الناس معه وقال : لم أرد أن أسجدها فإنها توبة نبي من الأنبياء وإنما سجدت ; لأني رأيتكم تشوفتم للسجود } .

( ولنا ) حديث عثمان رضي الله عنه أنه قرأ في الصلاة سورة ( ص ) وسجد الناس معه وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكر عليه أحد ، ولو لم تكن واجبة لما جاز إدخالها في الصلاة .

وروي أن { رجلا من الصحابة قال : يا رسول الله رأيت كما يرى النائم كأني أكتب سورة ص فلما انتهيت إلى موضع السجدة سجدت الدواة والقلم ، فقال رسول الله : صلى الله عليه وسلم نحن أحق بها من الدواة والقلم فأمر حتى تليت في مجلسه وسجدها مع أصحابه } .

وما تعلق به الشافعي فهو دليلنا فإنا نقول نحن نسجد ذلك شكرا لما أنعم الله على داود بالغفران والوعد بالزلفى وحسن المآب ، ولهذا لا يسجد عندنا عقيب قوله " وأناب " بل عقيب قوله " مآب " ، وهذه نعمة عظيمة في حقنا فإنه يطمعنا في إقالة عثراتنا وغفران خطايانا وزلاتنا فكانت سجدة تلاوة ; لأن سجدة التلاوة ما كان سببها التلاوة ، وسبب وجوب هذه السجدة تلاوة هذه الآية التي فيها الإخبار عن هذه النعم على داود عليه الصلاة والسلام وأطماعنا في نيل مثله .

وكذا سجدة النبي صلى الله عليه وسلم في الجمعة الأولى وترك الخطبة لأجلها يدل على أنها سجدة تلاوة ، وتركه في الجمعة الثانية لا يدل على أنها ليست بسجدة تلاوة بل كان يريد التأخير .

وهي عندنا لا تجب على الفور فكان يريد أن لا يسجدها على الفور ، والثالث أن في المفصل عندنا ثلاث سجدات ، وعند مالك لا سجدة في المفصل واحتج بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم { لم يسجد في المفصل بعدما هاجر إلى المدينة } .

( ولنا ) ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال { : أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة سجدة ، ثلاث منها في المفصل } ، وعن علي رضي الله عنه أنه قال : عزائم السجود في القرآن أربعة : الم تنزيل السجدة ، وحم السجدة ، والنجم ، واقرأ باسم ربك ، وعن ابن مسعود قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم { قرأ سورة النجم بمكة فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون إلا شيخا وضع كفا من تراب على جبهته وقال هذا يكفيني فلقيته قتل كافرا } .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن { النبي صلى الله عليه وسلم قرأ إذا السماء انشقت فسجد وسجد معه أصحابه } ; ولأنه أمر بالسجود في سورة النجم ، واقرأ باسم ربك والأمر للوجوب وحديث ابن عباس رضي الله عنهما [ ص: 194 ] محمول على أنه كان لا يسجدها عقيب التلاوة كما كان يسجد من قبل نحمله على هذا بدليل ما روينا ، ثم في سورة حم السجدة ، عندنا السجدة عند قوله { وهم لا يسأمون } وهو مذهب عبد الله بن عباس ووائل بن حجر ، وعند الشافعي عند قوله { إن كنتم إياه تعبدون } وهو مذهب علي رضي الله عنه واحتج بما روي عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما هكذا ، ولأن الأمر بالسجود ههنا فكان السجود عنده .

( ولنا ) أن السجود مرة بالأمر ، ومرة بذكر استكبار الكفار فيجب علينا مخالفتهم ، ومرة عند ذكر خشوع المطيعين فيجب علينا متابعتهم وهذه المعاني تتم عند قوله { وهم لا يسأمون } فكان السجود عنده أولى ولأن فيما ذهب إليه أصحابنا أخذا بالاحتياط عند اختلاف مذاهب الصحابة رضي الله عنهم فإن السجدة لو وجبت عند قوله { تعبدون } فالتأخير إلى قوله { لا يسأمون } لا يضر ويخرج عن الواجب .

ولو وجبت عند قوله { لا يسأمون } لكانت السجدة المؤداة قبله حاصلة قبل وجوبها ووجود سبب وجوبها فيوجب نقصانا في الصلاة ولم يؤد الثانية فيصير المصلي تاركا ما هو واجب في الصلاة ، فيصير النقص متمكنا في الصلاة من وجهين ولا نقص فيما قلنا ألبتة وهذا هو أمارة التبحر في الفقه والله الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية