( فصل ) :
وأما بيان
ما ينفذ من القضايا ، وما ينقض منها إذا رفع إلى قاض آخر فنقول - وبالله التوفيق : قضاء القاضي الأول لا يخلو إما أن وقع في فصل فيه نص مفسر من الكتاب العزيز ، والسنة المتواترة ، والإجماع ، وإما أن وقع في فصل مجتهد فيه من ظواهر النصوص والقياس ، فإن وقع في فصل فيه نص مفسر من الكتاب ، أو الخبر المتواتر ، أو الإجماع ، فإن وافق قضاؤه ذلك نفذ ولا يحل له النقض ; لأنه وقع صحيحا قطعا ، وإن خالف شيئا من ذلك يرده ; لأنه وقع باطلا قطعا .
وإن وقع في فصل مجتهد فيه فلا يخلو إما أن كان مجمعا على كونه مجتهدا فيه ، وإما أن كان مختلفا في كونه مجتهدا فيه ، فإن كان ذلك مجمعا على كونه محل الاجتهاد ، فإما أن كان المجتهد فيه هو المقضي به ، وإما أن كان نفس القضاء ، فإن كان المجتهد فيه هو المقضي به ، فرفع قضاؤه إلى قاض آخر ; لم يرده الثاني ، بل ينفذه ; لكونه قضاء مجمعا على صحته ; لما علم أن الناس على اختلافهم في المسألة اتفقوا على أن للقاضي أن يقضي بأي الأقوال الذي مال إليه اجتهاده ، فكان قضاؤه مجمعا على صحته ، فلو نقضه إنما ينقضه بقوله .
وفي صحته اختلاف بين الناس فلا يجوز نقض ما صح بالاتفاق بقول مختلف في صحته ; ولأنه ليس مع الثاني دليل قطعي بل اجتهادي ، وصحة قضاء القاضي الأول ثبت بدليل قطعي ، وهو إجماعهم على جواز القضاء بأي وجه اتضح له ، فلا يجوز نقض ما مضى بدليل قاطع بما فيه شبهة ; ولأن الضرورة توجب
القول بلزوم القضاء المبني على الاجتهاد ، وأن لا يجوز نقضه ; لأنه لو جاز نقضه يرفعه إلى قاض آخر يرى خلاف رأي الأول فينقضه ، ثم يرفعه المدعي إلى قاض آخر يرى خلاف رأي القاضي الثاني فينقض نقضه ، ويقضي كما قضى الأول فيؤدي إلى أن لا تندفع الخصومة والمنازعة أبدا ، والمنازعة سبب الفساد ، وما أدى إلى الفساد فساد .
فإن كان رده القاضي الثاني فرفعه إلى قاض ثالث نفذ قضاء القاضي الأول ، وأبطل قضاء القاضي الثاني ; لأن قضاء الأول صحيح ، وقضاء الثاني بالرد باطل ، هذا إذا كان القاضي الأول قاضي أهل العدل ، فإن
كان قاضي أهل البغي فرفعت قضاياه إلى قاضي أهل العدل ، بأن ظهر أهل العدل على المصر - الذي كان في يد
الخوارج - فرفعت إلى قاضي أهل العدل قضايا قاضيهم ، لم ينفذ شيئا منها ، بل ينقضها كلها - وإن كانوا من أهل القضاء والشهادة في الجملة - كبتا وغيظا لهم ; لينزجروا عن البغي ، وإن كان نفس القضاء مجتهدا فيه أنه يجوز أم لا كما لو قضى بالحجر على الحر أو قضى على الغائب ؟ أنه يجوز للقاضي الثاني أن ينقض قضاء الأول إذا مال اجتهاده إلى خلاف اجتهاده الأول ; لأن قضاءه هنا لم يجز بقول الكل ، بل بقول البعض دون البعض فلم يكن جوازه متفقا عليه فكان محتملا للنقض بمثله .
بخلاف الفصل الأول ; لأن جواز القضاء هناك ثبت بقول الكل ، فكان متفقا عليه فلا يحتمل النقض بقول البعض ; ولأن المسألة إذا كانت مختلفا فيها ، فالقاضي بالقضاء يقطع أحد الاختلافين ، ويجعله متفقا عليه في الحكم بالقضاء المتفق على جوازه ، وإذا كان نفس القضاء مختلفا فيه يرفع الخلاف بالخلاف ، هذا إذا كان القضاء في محل أجمعوا على كونه
[ ص: 15 ] محل الاجتهاد ، فأما إذا كان في محل اختلفوا أنه محل الاجتهاد أم لا ،
كبيع أم الولد هل ينفذ فيه قضاء القاضي أم لا ؟ فعند
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=14954وأبي يوسف رحمهما الله ينفذ ; لأنه محل الاجتهاد عندهما ; لاختلاف الصحابة في جواز بيعهما ، وعند
nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد لا ينفذ ; لوقوع الاتفاق بعد ذلك من الصحابة وغيرهم ، على أنه لا يجوز بيعها ، فخرج عن محل الاجتهاد .
وهذا يرجع إلى أن الإجماع المتأخر هل يرفع الخلاف المتقدم ؟ عندهما لا يرفع ، وعنده يرفع ، فكان هذا الفصل مختلفا في كونه مجتهدا فيه ، فينظر إن كان من رأي القاضي الثاني أنه يجتهد فيه ، ينفذ قضاءه ، ولا يرده ; لما ذكرنا في سائر المجتهدات المتفق عليها وإن كان من رأيه أنه خرج عن حد الاجتهاد ، وصار متفقا عليه ، لا ينفذ ، بل يرده ; لأن عنده أن قضاء الأول وقع مخالفا للإجماع ; فكان باطلا ، ومن مشايخنا من فصل في المجتهدات تفصيلا آخر فقال : إن كان الاجتهاد شنيعا مستنكرا جاز للقاضي الثاني أن ينقض قضاء الأول ، وهذا فيه نظر ; لأنه إذا صح كونه محل الاجتهاد فلا معنى للفصل بين مجتهد ومجتهد ; لأن ما ذكرنا من المعنى لا يوجب الفصل بينهما ، فينبغي أن لا يجوز للثاني نقض قضاء الأول ; لأن قضاءه صادف محل الاجتهاد .