بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
وأما كيفية الصلب فقد روي عن أبي يوسف - رحمه الله - أنه يصلب حيا ، ثم يطعن برمح حتى يموت ، وكذا ذكر الكرخي ، وعن أبي عبيد أنه يقتل ، ثم يصلب ، وكذا ذكر الطحاوي - رحمه الله - أن الصلب حيا من باب المثلة ، قد { نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن المثلة } ، والصحيح هو الأول ; لأن الصلب في هذا الباب شرع لزيادة في العقوبة تغليظا ، والميت ليس من أهل العقوبة ; ولأنه لو جاز أن يقال : يصلب بعد الموت ; لجاز أن يقال : تقطع يده ، ورجله من خلاف بعد الموت ، وذلك بعيد فكذا هذا .

والمراد من المثلة في الحديث قطع بعض الجوارح كذا قاله محمد - رحمه الله - وقيل : إذا صلبه الإمام تركه ثلاثة أيام عبرة للخلق ، ثم يخلي بينه ، وبين أهله ; لأنه بعد الثلاث يتغير ; فيتضرر به الناس .

وأما النفي في قوله تبارك وتعالى { أو ينفوا من الأرض } فقد اختلف أهل التأويل فيه قال بعضهم : المراد منه ، وينفوا من الأرض بحذف الألف ، ومعناه : وينفوا من الأرض بالقتل ، والصلب إذا هو النفي من وجه الأرض حقيقة ، وهذا على قول من تأول الآية الشريفة في المحارب الذي أخذ المال ، وقيل : إن الإمام يكون مخيرا بين الأجزية الثلاثة ، والنفي من الأرض ليس غير واحد من هذه الثلاثة في التخيير ; لأن بالقتل ، والصلب يحصل النفي فكذا لا يجوز أن يجعل النفي مشاركا الأجزية الثلاثة في التخيير ; لأنه لا يزاحم القتل ; لأنه دونه بكثير ، وقيل : نفيه أن يطرد حتى يخرج من دار الإسلام ، وهو قول الحسن .

وعن إبراهيم النخعي - رحمه الله - في رواية أن نفيه طلبه وبه قال الشافعي - رحمه الله - : إنه يطلب في كل بلد ، والقولان لا يصحان ; لأنه إن طلب في البلد الذي قطع الطريق ، ونفي عنه فقد ألقى ضرره إلى بلد آخر ، وإن طلب من كل بلد من بلاد الإسلام ، ونفي عنه يدخل دار الحرب ، وفيه تعريض له على الكفر ، وجعله حربا لنا ، وهذا لا يجوز ، وعن النخعي - رحمه الله - في رواية أخرى أنه يحبس حتى يحدث توبة ، وفيه نفي عن وجه الأرض مع قيام الحياة إلا عن الموضع الذي حبس فيه ، ومثل هذا في عرف الناس يسمى نفيا عن وجه الأرض ، وخروجا عن الدنيا كما أنشد لبعض المحبوسين

خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى     إذا جاءنا السجان يوما لحاجة
عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا

.

التالي السابق


الخدمات العلمية