بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( وأما ) بيان مقدار الاستحقاق وبيان حال المستحق وهو المقاتل فنقول - وبالله التوفيق : المقاتل إما أن يكون راجلا .

( وإما ) أن يكون فارسا فإن كان راجلا فله سهم واحد ، وإن كان فارسا فله سهمان عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - له ثلاثة أسهم : سهم له ، وسهمان لفرسه وبه أخذ الشافعي - رحمه الله - وروايات الأخبار تعارضت في الباب ، روي في بعضها أنه عليه الصلاة والسلام { قسم للفارس سهمين ، } وفي بعضها { أنه عليه الصلاة والسلام قسم له ثلاثة أسهم } إلا أن رواية السهمين عاضدها القياس ، وهو أن الرجل أصل في الجهاد ، والفرس تابع له ; لأنه آلة .

ألا ترى أن فعل الجهاد يقوم بالرجل وحده ، ولا يقوم بالفرس وحده ، فكان الفرس تابعا في باب الجهاد ولا يجوز تنفيل التبع على الأصل في السهم ، وأخبار الآحاد إذا تعارضت ، فالعمل بما عاضده القياس أولى والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

ويستوي فيه العتيق من الخيل والفرس والبرذون ; لأنه لا فضل في النصوص بين فارس وفارس ، ولأن استحقاق سهم الفرس لحصول إرهاب العدو به والله - سبحانه وتعالى - وصف جنس الخيل بذلك بقوله - تبارك وتعالى - { ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } فلا يفصل بين نوع ونوع ، ولا يسهم لأكثر من فرس واحد عند أبي حنيفة ومحمد وزفر - رحمهم الله - وعند أبي يوسف يسهم لفرسين .

( وجه ) قول أبي يوسف - رحمه الله - أن الغازي تقع الحاجة له إلى فرسين ، يركب أحدهما ويجنب الآخر حتى إذا أعيا المركوب عن الكر والفر تحول إلى الجنيبة .

( وجه ) قولهم أن الإسهام للخيل في الأصل ثبت على مخالفة القياس ; لأن الخيل آلة الجهاد ثم لا يسهم لسائر آلات الجهاد ، فكذا الخيل إلا أن الشرع ورد به كفرس واحد ، فالزيادة على ذلك ترد إلى أصل القياس على أن ورود الشرع إن كان معلولا بكونه آلة مرهبة للعدو ، بخلاف سائر الآلات فالمعتبر هو أصل الإرهاب ، بدليل أنه لا يسهم لما زاد على فرسين بالإجماع ، مع أن معنى الإرهاب يزداد بزيادة الفرس .

ثم اختلف في حال المقاتل من كونه فارسا ، أو راجلا في أي وقت يعتبر وقت دخوله دار الحرب أم وقت شهود الوقعة ، فعندنا يعتبر وقت دخول دار الحرب إذا دخلها على قصد القتال ، وعند الشافعي - رحمه الله - يعتبر وقت شهود الوقعة ، حتى إن الغازي إذا دخل دار الحرب فارسا فمات فرسه أو نفر ، أو أخذه العدو فله سهم الفرسان عندنا ، وعنده له سهم الرجالة واحتج بما روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال : الغنيمة لمن شهد الوقعة ولأن استحقاق الغنيمة بالجهاد ، ولم يوجد وقت دخول دار الحرب ; لأن الجهاد بالمقاتلة ، ودخول دار الحرب من باب قطع المسافة لا من باب المقاتلة .

( ولنا ) أن الله - تبارك وتعالى - جعل الغنائم للمجاهدين ، قال - سبحانه وتعالى - { فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا } [ ص: 127 ] وقال - تعالى عز شأنه - { واعلموا أنما غنمتم من شيء } وقال - جلت عظمته وكبرياؤه - { وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها } وقال - سبحانه وتعالى - { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } وغير ذلك من النصوص ، والذي جاوز الدرب فارسا على قصد القتال مجاهد لوجهين : أحدهما ، أن المجاوزة على هذا الوجه إرهاب العدو ، وأنه جهاد والدليل على أنه إرهاب العدو ، وأنه جهاد قوله - عز وجل - { ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } ولأن دار الحرب لا تخلو عن عيون الكفار وطلائعهم ، فإذا دخلها جيش كثيف رجالا وركبانا فالجواسيس يخبرونهم بذلك ، فيقع الرعب في قلوبهم حتى يتركوا القرى والرساتيق هربا إلى القلاع والحصون المنيعة ، فكان مجاوزة الدرب على قصد القتال إرهاب العدو ، وأنه جهاد .

والثاني أن فيه غيظ الكفرة وكبتهم ; لأن وطء أرضهم وعقر دارهم مما يغيظهم قال الله - تبارك وتعالى - { ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار } وفيه قهرهم وما الجهاد إلا قهر أعداء الله - تعالى - لإعزاز دينه ، وإعلاء كلمته فدل أن مجاوزة الدرب فارسا على قصد القتال جهاد ومن جاهد فارسا فله سهم الفرسان ، ومن جاهد راجلا فله سهم الرجالة ، بقوله عليه الصلاة والسلام للفارس سهمان وللراجل سهم .

وأما أمر سيدنا عمر رضي الله عنه فيحتمل أنه قال ذلك في وقعة خاصة ، بأن وقع القتال في دار الإسلام أو في أرض فتحت عنوة وقهرا ، ثم لحق المدد أو يحمل على هذا توفيقا بين الدلائل بقدر الإمكان صيانة لها عن التناقض ، ونحن به نقول : إن المدد لا يشاركونهم في الغنيمة في تلك الوقعة إلا إذا شهدوها ، ولا كلام فيه ، وعلى هذا إذا دخل راجلا ثم اشترى فرسا أو استأجر ، أو استعار أو وهب له فله سهم الرجال عندنا ; لاعتبار وقت الدخول وعند الشافعي له سهم الفرسان ; لاعتبار وقت الشهود وقال الحسن - رحمه الله - في هذه الصورة إذا قاتل فارسا فله سهم فارس ، وعلى هذا إذا دخل فارسا ثم باع فرسه أو آجره ، أو وهبه أو أعاره فقاتل وهو راجل فله سهم راجل ، ذكره في السير الكبير .

وروى الحسن عن أبي حنيفة - رحمهما الله - أن له سهم فارس ، وسوى على هذه الرواية بين البيع والموت ، وبين البيع قبل شهود الوقعة وبعدها والصحيح جواب ظاهر الرواية ; لأن المجاوزة فارسا على قصد القتال دليل الجهاد فارسا ، ولما باع فرسه تبين أنه لم يقصد به الجهاد فارسا ، بل قصد به التجارة ، وكذا هذا في الإجارة والإعارة والرهن ، بخلاف ما بعد شهود الوقعة ; لأن البيع بعده لا يدل على قصد التجارة ; لأن الغازي لا يبيع فرسه ذلك الوقت لقصد التجارة عادة ، بل لقصد ثبات القدم والتشمر للقتال بعامة ما في وسعه وإمكانه والله - تعالى - أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية