بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( أما ) الذي يرجع إلى حال قيامه فهو وجوب رد المغصوب على الغاصب ، والكلام في هذا الحكم في ثلاثة مواضع : في بيان سبب وجوب الرد ، وفي بيان شرط وجوبه ، وفي بيان ما يصير المالك به مستردا أما السبب فهو أخذ مال الغير بغير إذنه لقوله عليه الصلاة والسلام : { على اليد ما أخذت حتى ترد } ، وقوله عليه الصلاة والسلام : { لا يأخذ أحدكم مال صاحبه لاعبا ولا جادا ، فإذا أخذ أحدكم عصا صاحبه فليرد عليه } ولأن الأخذ على هذا الوجه معصية ، والردع عن المعصية واجب ، وذلك برد المأخوذ ، ويجب رد الزيادة المنفصلة ، كما يجب رد الأصل ; لوجود سبب وجوب الرد فيه ، ومؤنة الرد على الغاصب ; لأنها من ضرورات الرد ، فإذا وجب عليه الرد وجب عليه ما هو من ضروراته ، كما في رد العارية .

( وأما ) شرط وجوب الرد فقيام المغصوب في يد الغاصب حتى لو هلك في يده أو استهلك صورة ومعنى ، أو معنى لا صورة ، ينتقل الحكم من الرد إلى الضمان ; لأن الهالك لا يحتمل الرد ، وعلى هذا يخرج ما إذا كان المغصوب حنطة فزرعها الغاصب أو نواة فغرسها حتى نبتت ، أو باقلة فغرسها حتى صارت شجرة ، أو بيضة فحضنها حتى صارت دجاجة ، أو قطنا فغزله ، أو غزلا فنسجه ، أو ثوبا فقطعه أو خاطه قميصا ، أو لحما فشواه أو طبخه ، أو شاة فذبحها وشواها أو طبخها ، أو حنطة فطحنها ، أو دقيقا فخبزه ، أو سمسما فعصره ، أو عنبا فعصره ، أو حديدا فضربه سيفا ، أو سكينا أو صفرا أو نحاسا فعمله آنية ، أو ترابا له قيمة فلبنه أو اتخذه خزفا ، أو لبنا فطبخه آجرا ، ونحو ذلك : أنه ليس للمالك أن يسترد شيئا من ذلك عندنا ، ويزول ملكه بضمان المثل أو القيمة .

وعند الشافعي له ولاية الاسترداد ، ولا يزول ملكه وجه قوله : أن ذات المغصوب وعينه قائم بعد فعل الغاصب ، وإنما فات بعض صفاته ، فلا يبطل حق الاسترداد ، كما إذا غصب ثوبا فقطعه ولم يخطه ، أو صبغه أحمر أو أصفر ; لأن الملك في المغصوب كان ثابتا للمالك ، والعارض وهو فعل الغاصب محظور ، فلا يصلح سببا لثبوت الملك له ، فيلحق بالعدم ، فيبقى المغصوب على ملك المالك ، فتبقى له ولاية الاسترداد .

( ولنا ) أن فعل الغاصب في هذه المواضع وقع استهلاكا للمغصوب إما صورة ومعنى أو معنى لا صورة ، فيزول ملك المالك عنه ، وتبطل ولاية الاسترداد ، كما إذا استهلكه حقيقة ، ودلالة تحقق الاستهلاك أن المغصوب قد تبدل وصار شيئا آخر بتخليق الله تعالى وإيجاده ; لأنه لم تبق صورته ولا معناه الموضوع له في بعض المواضع ولا اسمه ، وقيام الأعيان بقيام صورها [ ص: 149 ] ومعانيها المطلوبة منها ، وفي بعضها إن بقيت الصورة فقد فات معناه الموضوع له المطلوب منه عادة ، فكان فعله استهلاكا للمغصوب صورة ومعنى أو معنى فيبطل حق الاسترداد ، إذ الهالك لا يحتمل الرد كالهالك الحقيقي ، ولأنه إذا حصل الاستهلاك يزول ملك المالك ; لأن الملك لا يبقى في الهالك ، كما في الهالك الحقيقي ، فتنقطع ولاية الاسترداد ضرورة ، ولأن الاستهلاك يوجب ضمان المثل أو القيمة للمالك لوقوعه اعتداء عليه أو إضرارا به ، وهذا يوجب زوال ملكه عن المغصوب لما نذكره إن شاء الله تعالى .

وإذا زال ملك المالك بالضمان يثبت الملك للغاصب في المضمون لوجود سبب الثبوت في محل قابل ، وهو إثبات الملك على مال غير مملوك لأحد ، وبه تبين أن فعله الذي هو سبب لثبوت الملك مباح لا حظر فيه ، فجاز أن يثبت الملك به ، وعلى هذا يخرج ما إذا غصب لبنا أو آجرا أو ساجة فأدخلها في بنائه أنه لا يملك الاسترداد عندنا ، وتصير ملكا للغاصب بالقيمة خلافا للشافعي رحمه الله فهو على أصله المعهود في جنس هذه المسائل أن فعل الغاصب محظور ، فلا يصلح سببا لثبوت الملك ، لكون الملك نعمة وكرامة فالتحق فعله بالعدم شرعا فبقي ملك المغصوب منه ، كما كان .

( ولنا ) أن المغصوب بالإدخال في البناء والتركيب صار شيئا آخر غير الأول لاختلاف المنفعة ، إذ المطلوب من المركب غير المطلوب من المفرد ، فصار بها تبعا له ، فكان الإدخال إهلاكا معنى فيوجب زوال ملك المغصوب منه ويصير ملكا للغاصب ، ولأن الغاصب يتضرر بنقض البناء ، والمالك وإن كان يتضرر بزوال ملكه أيضا لكن ضرره دون ضرر الغاصب ; لأنه يقابله عوض ، فكان ضرر الغاصب أعلى ، فكان أولى بالدفع ، ولهذا لو غصب من آخر خيطا فخاط به بطن نفسه أو دابته ينقطع حق المالك ، كذا هذا وذكر الكرخي رحمه الله أن موضوع مسألة الساجة ما إذا بنى الغاصب في حوالي الساجة لا على الساجة ، فأما إذا بنى على نفس الساجة لا يبطل ملك المالك ، بل ينقض ، وهو اختيار الفقيه أبي جعفر الهندواني رحمه الله ; لأن البناء إذا لم يكن على نفس الساجة ، لم يكن الغاصب متعديا بالبناء لينقض إزالة للتعدي .

وإذا كان البناء عليها كان متعديا على الساجة ، فيزال تعديه بالنقض ، والصحيح أن الجواب في الموضعين ، والخلاف في الفصلين ثابت ; لأنه كيف ما كان لا يمكنه رد الساجة ، إلا بنقض البناء ولزوم ضرر معتبر ، هذا موضوع المسألة ، حتى لو كان يمكنه الرد بدون ذلك لا ينقطع حق المالك بالاتفاق ، بل يؤمر بالرد ، ولو بيعت الدار في حياة الغاصب أو بعد وفاته كان صاحب هذه الأشياء أسوة الغرماء في الثمن ، فلا يكون أخص بشيء من ذلك ; لأن ملكه قد زال عن العين إلى القيمة ، فبطل اختصاصه بالعين ، وكذلك لو غصب خوصا فجعله زنبيلا لا سبيل للمغصوب منه عليه ، وهو بمنزلة الساجة إذا جعلها بناء ، ولو غصب نخلة فشقها فجعلها جذوعا كان له أن يأخذ الجذوع ; لأن عين المغصوب قائمة .

وإنما فرق الأجزاء فأشبه الثوب إذا قطعه ولم يخطه ، ولو غصب أرضا فبنى عليها أو غرس فيها لا ينقطع ملك المالك ، ويقال للغاصب أقلع البناء والغرس وردها فارغة ; لأن الأرض بحالها لم تتغير ولم تصر شيئا آخر ، ألا ترى أنها لم تتركب بشيء ، وإنما جاورها البناء والغرس بخلاف الساجة ; لأنها ركبت وصارت من جملة البناء ، ألا يرى أنه يسمي الكل بناء واحدا ، فإن كانت الأرض تنقص بقلع ذلك فللمالك أن يضمن له قيمة البناء والغرس مقلوعا ، ويكون له البناء والغرس ; لأن الغاصب يتضرر بالمنع من التصرف في ملك نفسه بالقلع ، والمالك أيضا يتضرر بنقصان ملكه ، فلزم رعاية الجانبين ، وذلك فيما قلنا ، ولو غصب تبر ذهب أو فضة فصاغه إناء ، أو ضربه دراهم أو دنانير فللمغصوب منه أن يأخذه ولا يعطيه شيئا لأجل الصياغة على قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قولهما لا سبيل له على ذلك ، وعلى الغاصب مثل ما غصب .

وأجمعوا على أنه إذا سبكه ولم يصغه ، أو جعله مربعا أو مطولا أو مدورا أن له أن يسترده ، ولا شيء عليه .

( وجه ) قولهما أن صنع الغاصب وقع استهلاكا ; لأن المغصوب بالصياغة صار شيئا آخر ، فأشبه ما إذا غصب حديدا فاتخذه سيفا أو سكينا وجه قوله أن استهلاك الشيء إخراجه من أن يكون منتفعا به منفعة موضوعة له مطلوبة منه عادة ، ولم يوجد هاهنا ; لأن المطلوب من الذهب والفضة الثمنية ، وهي باقية بعد ما استحدث الصنعة ، فلم يتحقق الاستهلاك فبقي على ملك المغصوب منه ، ولو غصب صفرا أو نحاسا أو حديدا فضربه آنية ينظر إن [ ص: 150 ] كان يباع وزنا فهو على الخلاف الذي ذكرنا في الذهب والفضة ; لأنه لم يخرج بالضرب والصناعة عن حد الوزن .

وإن كان يباع عددا ليس له أن يسترده بلا خلاف ; لأنه خرج عن كونه موزونا بخلاف الذهب والفضة ; لأن الوزن فيهما أصل لا يتصور سقوطه أبدا ، ولو غصب ثوبا فقطعه ولم يخطه ، أو شاة فذبحها ولم يشوها ولا طبخها لا ينقطع حق المالك ، إذ الذبح ليس باستهلاك ، بل هو تنقيص وتعييب ، فلا يوجب زوال الملك ، بل يوجب الخيار للمالك على ما نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى .

( وأما ) بيان ما يصير المالك به مستردا للمغصوب فنقول وبالله التوفيق : الأصل أن المالك يصير مستردا للمغصوب بإثبات يده عليه ; لأنه صار مغصوبا بتفويت يده عنه ، فإذا أثبت يده عليه ، فقد أعاده إلى يده فزالت يد الغاصب ضرورة ، إلا أن يغصبه ثانيا .

وعلى هذا تخرج المسائل إذا كان المغصوب عبدا فاستخدمه ، أو ثوبا فلبسه ، أو دابة فركبها أو حمل عليها صار مستردا له ، ويبرأ الغاصب من الضمان لما قلنا سواء علم المالك أنه ملكه أو لم يعلم ; لأن إثبات اليد على العين أمر حسي لا يختلف بالعلم أو الجهل ، ولهذا لم يكن العلم شرطا لتحقق الغصب ، فلا يكون شرطا لبطلانه ، وكذلك لو كان طعاما فأكله ; لأنه أثبت يده عليه فبطلت يد الغاصب ، وكذا إذا أطعمه الغاصب يبرأ عن الضمان عندنا ، وعند الشافعي رحمه الله لا يبرأ وجه قوله أنه غره في ذلك حيث أطعمه ولم يعلمه أنه ملكه ، فلا يسقط عنه الضمان .

( ولنا ) أنه أكل طعام نفسه ، فلا يستحق الضمان على غيره ، كما لو كان في يد الغاصب فاستهلكه ، وقوله غره الغاصب ممنوع ، بل هو الذي اغتر بنفسه حيث تناول من غير بحث أنه ملكه أو ملك الغاصب ، والمغتر بنفسه لا يستحق الضمان على غيره ، ولو كان المغصوب عبدا فآجره من الغاصب للخدمة ، أو ثوبا فآجره منه للبس ، أو دابة للركوب وقبل الغاصب الإجارة برئ عن الضمان ; لأن الإجارة إذا صحت صارت يد الغاصب على المحل يد إجارة ، وأنها يد محقة فتبطل يد الغصب ضرورة ، فيبرأ عن الضمان حين وجبت عليه الإجارة بالإجارة ، وقالوا في الغاصب إذا آجر العبد المغصوب من مولاه ليبني له حائطا معلوما أنه يسقط ضمان الغصب حين يبتدئ بالبناء ; لأن البراءة عن الضمان في الموضعين جميعا متعلقة بوجوب الأجرة ، والأجرة في استئجار العبد والثوب تجب بالتسليم وهو التخلية .

وههنا تجب بالعمل لا بنفس التخلية ; لذلك افترقا ، ولو زوج الأمة المغصوبة من الغاصب لا يبرأ عن الضمان في .

قياس .

قول أبي حنيفة رحمه الله ، وعند أبي يوسف يبرأ بناء على أن المشتري هل يصير قابضا بالتزويج أم لا ؟ وقد ذكرنا المسألة في كتاب البيوع في بيان حكم البيع ، ولو استأجر الغاصب لتعليم العبد المغصوب عملا من الأعمال فهو جائز ، لكنه لا يصير مستردا للعبد ولا يبرأ الغاصب عن الضمان ، بل هو في يد الغاصب على ضمانه ، حتى لو هلك قبل أن يأخذ في ذلك العمل أو بعده ضمن .

وكذلك لو استأجره لغسل الثوب المغصوب ; لأن الإجارة هاهنا ما وقعت على المغصوب ، فلم تثبت يد الإجارة عليه لتبطل عنه يد الغاصب ، فبقي في يد الغصب كما كان ، فبقي مضمونا كما كان بخلاف استئجار المغصوب على ما بينا ، وإذا رد الغاصب الثاني المغصوب على الغاصب الأول برئ ; لأن يده يد المالك من وجه فيصح الرد عليه والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية