هذا الذي ذكرنا حكم الاستثناء إذا ورد على الجملة الملفوظة ، فأما إذا ورد الاستثناء على الاستثناء فالأصل فيه أن
الاستثناء الداخل على الاستثناء يكون استثناء من المستثنى منه ; لأن المستثنى منه أقرب المذكور إليه فيصرف الاستثناء الثاني إليه ويجعل الباقي منه مستثنى من الجملة الملفوظة وعلى هذا إذا ورد الاستثناء على الاستثناء مرة بعد أخرى وإن كثر فالأصل فيه أن يصرف كل استثناء إلى ما يليه لكونه أقرب المذكور إليه فيبدأ من الاستثناء الأخير فيستثنى الباقي مما يليه ثم ينظر إلى الباقي مما يليه ثم ينظر إلى الباقي هكذا إلى الاستثناء الأول ثم ينظر إلى الباقي منه فيستثنى ذلك من الجملة الملفوظة فما بقي منها فهو القدر المقر به .
بيان هذه الجملة إذا
قال : لفلان علي عشرة دراهم إلا إلا ثلاثة دراهم إلا درهما يكون إقرارا بثمانية دراهم لأنا صرفنا
[ ص: 212 ] الاستثناء الأخير إلى ما يليه فبقي درهمان يستثنيهما من العشرة فيبقى ثمانية ، والأصل فيه قوله سبحانه وتعالى خبرا عن الملائكة {
قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين } استثنى الله تبارك وتعالى آل
لوط من أهل القرية لا من المجرمين ; لأن حقيقة الاستثناء من الجنس وآل
لوط لم يكونوا مجرمين ثم استثنى امرأته من آله فبقيت في الغابرين .
ولو قال : لفلان علي عشرة دراهم إلا خمسة دراهم إلا ثلاثة دراهم إلا درهما يكون إقرارا بسبعة لأنا جعلنا الدرهم مستثنى مما يليه وهي ثلاثة فبقي درهمان استثناهما من خمسة فبقي ثلاثة استثناها من الجملة الملفوظة فبقي سبعة وكذلك لو قال : لفلان علي عشرة دراهم إلا سبعة دراهم إلا خمسة دراهم إلا ثلاثة دراهم إلا درهما يكون إقرارا بستة لما ذكرنا من الأصل وهذا الأصل لا يخطئ في إيراد الاستثناء على الاستثناء وإن كثر هذا إذا كان الأصل متصلا بالجملة المذكورة فأما إذا كان منفصلا عنها بأن قال : لفلان علي عشرة دراهم وسكت ثم قال إلا درهما لا يصح الاستثناء عند عامة العلماء وعامة الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلا ما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه يصح وبه أخذ بعض الناس ، ووجهه أن الاستثناء بيان لما ذكرنا فيصح متصلا ومنفصلا كبيان المجمل والتخصيص للعام عندنا .
وجه قول العامة أن صيغة الاستثناء إذا انفصلت عن الجملة الملفوظة لا تكون كلام استثناء لغة ; لأن العرب ما تكلمت به أصلا ، ولو اشتغل به أحد يضحك عليه كمن قال : لفلان علي كذا ، ثم قال : بعد شهر إن شاء الله تعالى لا يعد ذلك تعليقا بالمشيئة حتى لا يصح ، كذا هذا والرواية عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس لا تكاد تصح ، بخلاف بيان المجمل والعام ; لأنهم يتكلمون بذلك مستعمل عندهم متصلا ومنفصلا على ما عرف في أصول الفقه ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .
وعلى هذا قال
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة فيمن قال : أنت حر وحر إن شاء الله تعالى ، أنه لا يصح الاستثناء ; لأن تكرير صيغة التحرير لغو فكان في معنى السكتة ولو قال : لفلان علي كر حنطة وكر شعير إلا كر حنطة وقفيز شعير ، لا يصح استثناء كر الحنطة بالاتفاق لانصراف كر الحنطة إلى جنسه فيكون استثناء للكل من الكل فلم يصح ، وهل يصح استثناء القفيز من الشعير ؟ قال
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة - رحمه الله - : لا يصح لأنه لما لم يصح استثناء كر الحنطة فقد لغا فكأنه سكت ثم استثنى قفيز شعير فلم يصح استثناؤه أصلا ، والله - عز وجل - أعلم .