( فصل ) :
وأما بيان
من يلي استيفاء القصاص ، وشرط جواز استيفائه فولاية استيفاء القصاص تثبت بأسباب : منها : الوراثة ، وجملة الكلام فيه أن الوارث لا يخلو إما أن كان واحدا ( وإما ) إن كانوا جماعة ، فإن كان واحدا لا يخلو إما أن كان كبيرا ، وإما أن كان صغيرا ، فإن كان كبيرا فله أن يستوفي القصاص لقوله تبارك وتعالى {
، ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } ، ولوجود سبب الولاية في حقه على الكمال ، وهو الوراثة من غير مزاحمة ، وإن كان صغيرا اختلف المشايخ فيه ، قال بعضهم : ينتظر بلوغه ، وقال بعضهم : يستوفيه القاضي ، وإن كانوا جماعة فإن كان الكل كبارا فلكل واحد منهم ولاية استيفاء القصاص حتى لو قتله أحدهم صار القصاص مستوفى ; لأن القصاص إن كان حق الميت فكل واحد من آحاد الورثة خصما في استيفاء حق الميت كما في المال وإذا كان حق الورثة ابتداء كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة - رحمه الله - فقد وجد سبب ثبوت الحق في حق كل واحد منهم ، إلا أن حضور الكل شرط جواز الاستيفاء ، وليس للبعض ولاية الاستيفاء مع غيبة البعض ; لأن فيه احتمال استيفاء ما ليس بحق له لاحتمال العفو من الغائب ، وإلى هذا أشار
nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد - رحمه الله - فقال : لا أدري لعل الغائب عفا ، وكذا إذا كان الكل حضورا لا يجوز لهم ، ولا لأحدهم أن يوكل في استيفاء القصاص على معنى أنه لا يجوز للوكيل استيفاء القصاص مع غيبة الموكل لاحتمال أن الغائب قد عفا ، ولأن في اشتراط حضرة الموكل رجاء العفو منه عند معاينة حلول العقوبة بالقاتل ، وقد قال الله تعالى {
وأن تعفوا أقرب للتقوى ، ولا تنسوا الفضل بينكم } ( فأما )
الاستيفاء بالوكيل فجائز إذا كان الموكل حاضرا على ما نذكر ، وإن كان فيهم صغير وكبير ، فإن كان الكبير هو الأب بأن كان القصاص مشتركا بين الأب وابنه الصغير فللأب أن يستوفي بالإجماع ; لأنه لو كان
[ ص: 244 ] لم يقاصص كان للأب أن يستوفيه فههنا أولى ، وإن كان الكبير غير الأب بأن كان أخا فللكبير أن يستوفي قبل بلوغ الصغير عند
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة ، وعند
nindex.php?page=showalam&ids=14954أبي يوسف nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي - رحمهما الله - تعالى ليس له ذلك قبل بلوغ الصغير ، والكلام فيه يرجع إلى أصل ذكرناه بدلائله فيما تقدم ، ومنها : الأبوة فللأب ، والجد أن يستوفي قصاصا وجب للصغير في النفس ، وفيما دون النفس ; لأن هذه ولاية نظر ومصلحة كولاية الإنكاح ، فتثبت لمن كان مختصا بكمال النظر والمصلحة في حق الصغير .
( وأما ) الوصي فلا يلي استيفاء القصاص في النفس بأن
قتل شخص عبد اليتيم ; لأن تصرف الوصي لا يصدر عن كمال النظر والمصلحة في حق الصغير لقصور في الشفقة الباعثة عليه بخلاف الأب ، والجد ، وله أن يستوفي القصاص فيما دون النفس ; لأن ما دون النفس يسلك به مسلك الأموال على ما نذكر ، وللوصي ولاية استيفاء المال .
( ومنها ) الملك المطلق وقت القتل ، فللمولى أن يستوفي القصاص إذا قتل مملوكه إذا لم يكن في استيفاء القصاص إبطال حق الغير من غير رضاه ; لأن الحق قد ثبت له ، وهو أقرب الناس إليه ، فله أن يستوفيه ، وكذا إذا قتل مدبره ، ومدبرته ، وأم ولده ، وولدها ; لأن التدبير ، والاستيلاد يوجب زوال الملك ، وكذا إذا قتل المكاتب ، ولم يترك وفاء ; لأنه مات رقيقا ، فكان ملك المولى قائما وقت القتل ، وذكر في المنتقى عند
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة رضي الله عنه في معتق البعض إذا قتل عاجزا أنه لا قصاص ، ففرق بينه ، وبين المكاتب ( ووجه ) الفرق أن موت المكاتب عاجزا يوجب انفساخ الكتابة ، وجعلها كأن لم تكن فالقتل صادفه وهو قن ، وموت معتق البعض لا يوجب انفساخ العتق إذ الإعتاق بعد وجوده لا يحتمل الفسخ فالقتل صادفه ، ولا ملك للمولى في كله ، ولو قتل المكاتب ، وترك وفاء ، وورثة أحرارا سوى المولى لا قصاص بالإجماع ; لأنه لا يستوفيه المولى لوقوع الشك في قيام المولى وقت القتل ، ولا الوارث لاحتمال أنه مات عبدا لاختلاف الصحابة رضي الله عنهم أنه يموت حرا أو عبدا ، فامتنع الوجوب ، وإن لم يكن له وارث حر غير المولى فله أن يستوفي القصاص عندهما خلافا
nindex.php?page=showalam&ids=16908لمحمد ، وقد ذكرنا المسألة ولو
قتل العبد في يد البائع قبل القبض ، فإن اختار المشتري إجازة البيع فله ولاية الاستيفاء بالإجماع ; لأن الملك كان له وقت القتل ، وقد تقرر بالإجازة ، فكان له أن يستوفي ، وإن اختار فسخ البيع فللبائع أن يستوفي القصاص في قول
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة رضي الله عنه وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14954أبو يوسف للبائع القيمة ، ولا قصاص له .
( وجه ) قوله أن الملك لم يكن ثابتا له وقت القتل ، وإنما حدث بعد ذلك بالفسخ ، والسبب حين وجوده لم ينعقد موجبا الحكم له فلا يثبت له بمعنى وجد بعد ذلك ،
nindex.php?page=showalam&ids=11990ولأبي حنيفة - رحمه الله - أن رد البيع فسخ له من الأصل ، وجعل إياه كأن لم يكن فإذا انفسخ من الأصل تبين أن الجناية ، وردت على ملك البائع فيوجب القصاص له فكان له أن يستوفي ، وليس للمشتري ولاية الاستيفاء ; لهذا المعنى ، إن بالفسخ يظهر أن العبد وقت القتل لم يكن على ملك البائع ،
ولو قتل العبد الذي هو بدل الصداق في يد الزوج ، أو بدل الخلع في يد المرأة ، أو بدل الصلح عن دم العمد في يدي الذي صالح عليه فذلك بمنزلة البيع ; لأن المستحق للصداق وبدل الخلع والصلح إن اختار إتباع القاتل فقد تقرر ملكه ، فيجب القصاص له ، وإن طالب بالقيمة فالملك في العبد قد انفسخ ، فيجب القصاص للآخر على ما ذكرنا في البيع ولو
قتل في يد المشتري ، وللمشتري خيار الشرط أو خيار الرؤية فالقصاص للمشتري قبض البائع الثمن أو لم يقبض ; لأن الخيار قد سقط بموت العبد ، وانبرم البيع ، وتقرر الملك فيه للمشتري فوجب القصاص له فكان له أن يستوفي القصاص ، كما إذا قتل في يده ، ولا خيار في البيع أصلا ، ولو كان الخيار للبائع فإن شاء أتبع القاتل فقتله قصاصا ، وإن شاء ضمن المشتري القيمة ( وأما ) اختيار إتباع القاتل فلأن العبد وقت القتل كان ملكا له .
( وأما ) اختيار تضمن المشتري القيمة فلأنه كان مضمونا في يده القيمة ، ألا ترى لو هلك بنفسه في يده كان عليه قيمته ؟ ولا قصاص للمشتري وإن هلك العبد بالضمان ; لأن الملك ثبت له بطريق الاستناد ، والمستند يظهر من وجه ، ويقتصر من وجه فشبه الظهور يقتضي وجوب القصاص له ، وشبه الاستناد يقتضي أن لا يجب ، فتمكنت الشبهة في الوجوب له فلا يجب ، وكذا العبد المغصوب إذا قتل في يدي الغاصب واختار المالك تضمينه لم يكن للغاصب القصاص ; لما قلنا ، ولو قتل عبد موصى برقبته لرجل ، وبخدمته لآخر لم ينفرد أحدهما باستيفاء القصاص ; لأن الموصى له بالخدمة
[ ص: 245 ] لا ملك له في الرقبة فلا يملك الاستيفاء بنفسه ، والموصى له بالرقبة وإن ملك الرقبة لكن في استيفاء القصاص إبطال حق الموصى له بالخدمة لا إلى بدل هو مال فلا يملك إبطال حقه عليه من غير رضاه ، وإذا اجتمعا فللموصى له بالرقبة أن يستوفي ; لأن المطلق للاستيفاء موجود ، وهو قيام ملك الرقبة ، والامتناع كان لحق الموصى له بالخدمة فإذا رضي بسقوط حقه فقد زال المانع .
ولو
قتل العبد المرهون في يد المرتهن لم يكن لواحد منهما أن ينفرد باستيفاء القصاص ( أما ) المرتهن فظاهر ; لأن ملك الرقبة لم يكن ثابتا له وقت القتل فلم يوجد سبب ثبوت ولاية الاستيفاء في حقه ( وأما ) الراهن فلأن استيفاءه يتضمن إبطال حق المرتهن في الدين من غير رضاه ; لأن الرهن يصير هالكا من غير بدل ; لأن العبد إنما كان رهنا من حيث إنه مال ، والقصاص لا يصلح بدلا عن المالية ; لأنه ليس بمال فيصير الرهن هالكا من غير بدل فيسقط دينه فكان في استيفائه القصاص إبطال حق المرتهن من غير رضاه ، وهذا لا يجوز ، ولو اجتمعا ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=15071الكرخي - رحمه الله - أن للراهن أن يستوفي القصاص عند
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة - رحمه الله - ; لأن الامتناع كان لحق المرتهن ، وقد رضي بسقوطه ، وعند
nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد ليس له أن يستوفي ، وإن اجتمعا على الاستيفاء ، وذكر
القاضي في شرحه مختصر
nindex.php?page=showalam&ids=14695الطحاوي - رحمه الله - أنه لا قصاص على قاتله ، ولم يذكر الخلاف ، وقد ذكرنا وجه كل من ذلك في كتاب الرهن .
( ومنها ) الولاء إذا لم يكن لمولى الأسفل وارث ; لأن الولاء سبب الولاية في الجملة .
ألا ترى أن مولى العتاقة يزوج بالإجماع ; لأنه آخر العصبات ، ومولى الموالاة يزوج على أصل
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة رضي الله عنه ; لأنه آخر الورثة ، فإن كان له وارث فلا قصاص لاشتباه الولي فلا يتصور الاستيفاء .
( ومنها ) السلطنة عند عدم الورثة ، والملك ، والولاء كاللقيط ، ونحوه إذا قتل ، وهذا قولهما ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14954أبو يوسف - رحمه الله - ليس للسلطان أن يستوفي إذا كان المقتول من أهل دار الإسلام ، وله أن يأخذ الدية ، وإن كان من أهل دار الحرب فله أن يستوفي القصاص ، وله أن يأخذ الدية ( وجه ) قوله أن المقتول في دار الإسلام لا يخلو عن ولي له عادة إلا أنه ربما لا يعرف ، وقيام ولاية الولي تمنع ولاية السلطان ، وبهذا لا يملك العفو ، بخلاف الحربي إذا دخل دار الإسلام فأسلم أن الظاهر أن لا ولي له في دار الإسلام ، ولهما أن
الكلام في قتيل لم يعرف له ولي عند الناس فكان وليه السلطان لقوله عليه الصلاة والسلام {
nindex.php?page=hadith&LINKID=14384السلطان ولي من لا ولي له } .
وقد روي أنه لما قتل سيدنا
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه خرج
الهرمزان ، والخنجر في يده فظن
عبيد الله أن هذا الذي قتل سيدنا
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه فقتله فرفع ذلك إلى سيدنا
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان رضي الله عنه فقال سيدنا
nindex.php?page=showalam&ids=8علي رضي الله عنه لسيدنا
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان اقتل
عبيد الله فامتنع سيدنا
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان رضي الله عنه وقال : كيف أقتل رجلا قتل أبوه أمس ؟ لا أفعل ، ولكن هذا رجل من أهل الأرض ، وأنا وليه أعفو عنه ، وأؤدي ديته وأراد بقوله أعفو عنه ، وأؤدي ديته الصلح على الدية وللإمام أن يصالح على الدية إلا أنه لا يملك العفو ; لأن القصاص حق المسلمين بدليل أن ميراثه لهم ، وإنما الإمام نائب عنهم في الإقامة ، وفي العفو إسقاط حقهم أصلا ورأسا ، وهذا لا يجوز ; ولهذا لا يملكه الأب ، والجد ، وإن كانا يملكان استيفاء القصاص ، وله أن يصالح على الدية كما فعل سيدنا
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان رضي الله عنه والله تعالى الموفق بالصواب .