وإن
عفا عن القطع أو الجراحة أو الشجة أو الجناية ثم مات أولا فجملة الكلام فيه أن الجرح لا يخلو إما أن يكون عمدا أو خطأ ، فإن كان عمدا فالمجروح لا يخلو إما أن يقول : عفوت عن القطع أو الجراحة أو الشجة أو الضربة ، وهذا كله قسم واحد .
( وإما ) أن يقول : عفوت عن الجناية ، والقسم الأول لا يخلو ( إما ) أن ذكر معه ما يحدث منها .
( وإما ) إن لم يذكر ، وحال المجروح لا يخلو ( إما ) أن برئ وصح .
( وإما ) إن مات من ذلك ، فإن برئ من ذلك صح العفو في الفصول كلها ; لأن العفو وقع عن ثابت ، وهو الجراحة أو موجبها ، وهو الأرش فيصح ، وإن سرى إلى النفس ومات ، فإن كان العفو بلفظ الجناية أو بلفظ الجراحة ، وما يحدث منها صح بالإجماع ، ولا شيء على القاتل ; لأن لفظ الجناية يتناول القتل ، وكذا لفظ الجراحة ، وما يحدث منها ، فكان ذلك عفوا عن القتل فيصح .
وإن كان بلفظ الجراحة ، ولم يذكر ما يحدث منها لم يصح العفو في قول
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة رضي الله عنه والقياس أن يجب القصاص ، وفي الاستحسان تجب الدية في مال القاتل ، وعندهما يصح العفو ، ولا شيء على القاتل .
( وجه ) قولهما أن السراية أثر الجراحة ، والعفو عن الشيء يكون عفوا عن أثره كما إذا قال عفوت عن الجراحة ، وما يحدث منها ،
nindex.php?page=showalam&ids=11990ولأبي حنيفة رضي الله عنه وجهان : أحدهما : أنه عفا عن غير حقه ، فإن حقه في موجب الجناية لا في عينها ; لأن عينها عرض لا يتصور بقاؤها فلا يتصور العفو عنها ، ولأن عينها جناية وجدت من الخارج ، والجناية لا تكون حق المجني عليه فكان هذا عفوا عن موجب الجراحة .
وبالسراية يتبين أنه لا موجب بهذه الجراحة ; لأن عند السراية يجب موجب القتل بالإجماع ، وهو القصاص إن كان عمدا ، والدية إن كان خطأ ، ولا يجب الأرش وقطع اليد مع موجب القتل ; لأن الجمع بينهما غير مشروع ، والثاني : إن كان العفو عن القطع والجرح صحيحا لكن القطع غير ، والقتل غير فالقطع إبانة الطرف ، والقتل فعل مؤثر في فوات الحياة عادة ، وموجب أحدهما القطع والأرش ، وموجب الآخر القتل والدية ، والعفو عن أحد الغيرين لا يكون عفوا عن الآخر في الأصل فكان القياس أن يجب القصاص لوجود القتل العمد ، وعدم ما يسقطه ، إلا أنه سقط للشبهة فتجب الدية ، وتكون في ماله ; لأنها وجبت بالقتل العمد ، والعاقلة لا تعقل العمد ، هذا إذا كان القتل عمدا ، فأما إذا كان خطأ فإن برئ من ذلك صح العفو بالإجماع ، ولا شيء على القاطع سواء كان بلفظ الجناية أو الجراحة ، وذكر وما يحدث منها أو لم يذكر لما قلنا ، وإن سرى إلى النفس فإن كان بلفظ الجناية أو الجراحة ، وما يحدث منها صح أيضا لما ذكرنا ، ثم إن كان العفو في حال صحة المجروح بأن كان يذهب ويجيء ولم يصر صاحب فراش يعتبر من جميع ماله ، وإن كان في حال المرض بأن صار صاحب فراش يعتبر عفوه من ثلث ماله ; لأن العفو تبرع منه ،
وتبرع المريض مرض الموت يعتبر من ثلث ماله ، فإن كان قدر الدية يخرج من الثلث سقط ذلك القدر عن العاقلة ، وإن كان لا يخرج كله من الثلث فثلثه يسقط عن العاقلة ، وثلثاه يؤخذ منهم ، وإن كان بلفظ الجراحة ولم يذكر وما يحدث منها لم يصح العفو ، والدية على العاقلة عند
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة ، وعندهما يصح العفو ، وهذا وقوله عفوت عن الجراحة وعن الجناية وما يحدث منها سواء ، وقد بينا حكمه ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
ولو كان مكان العفو صلح بأن صالح من القطع أو الجراحة على مال فهو على التفصيل الذي ذكرنا أنه إن برئ المجروح فالصلح صحيح بأي لفظ كان ، وسواء كان القطع عمدا أو خطأ ; لأن الصلح وقع عن حق ثابت فيصح ، وإن سرى إلى النفس ، فإن كان الصلح بلفظ الجناية أو بلفظ الجراحة وما يحدث منها فالصلح صحيح أيضا ; لأنه صلح عن حق ثابت ، وهو القصاص ، وإن كان بلفظ الجراحة ، ولم يذكر وما يحدث منها فعند
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة رحمه الله لا يصح الصلح ، ويؤخذ جميع الدية من ماله في العمد ، وإن كان خطأ يرد بدل الصلح ، ويجب جميع الدية على العاقلة ، والله سبحانه وتعالى أعلم
ولو كان مكان الصلح نكاح بأن قطعت امرأة يد رجل أو جرحته فتزوجها على ذلك فهو على ما ذكرنا من التفاصيل أنه إن برئ من ذلك جاز النكاح ، وصار أرش ذلك مهرا لها ; لأنه تبين أن موجب ذلك الأرش ، سواء كان القطع عمدا أو خطأ ; لأن القصاص بين الذكور والإناث لا يجري فيما دون النفس ، فكان الواجب هو المال ، فإذا تزوجها عليه فقد سمى المال فكان مهرا لها ، وإن سرى إلى النفس فإن كان النكاح بلفظ الجناية أو بلفظ الجراحة وما يحدث منها
[ ص: 250 ] وكان القطع خطأ جاز النكاح ، وصار دم الزوج مهرا لها ; لأنه لما اتصلت به السراية تبين أنه وقع قتلا موجبا للدية على العاقلة ، فكان التزوج على موجب الجناية ، وهو الدية ، وسقطت عن العاقلة لصيرورتها مهرا لها ، وهذا إذا كان وقت النكاح صحيحا ، فإن كان مريضا فبقدر مهر المثل يسقط عن العاقلة ; لأنه ليس بمتبرع في هذا القدر .
( وأما ) الزيادة على ذلك فينظر إن كانت تخرج من ثلث ماله يسقط أيضا ، وإن كانت لا تخرج من ثلث ماله فبقدر الثلث يسقط أيضا ، والزيادة تكون للزوج ترجع إلى ورثته ، وإنما اعتبر خروج الزيادة من ثلث ماله ; لأنه متبرع بالزيادة ، وهو مريض مرض الموت ، هذا في الخطأ .
( وأما ) في العمد جاز النكاح ، وصار عفوا .
( وأما ) جواز النكاح فلا شك فيه ; لأن جوازه لا يقف على تسمية ما هو مال .
( وأما ) صيرورة النكاح على القصاص عفوا له ; لأنه لما تزوجها على القصاص فقد أزال حقه عنه ، وأسقطه وهذا معنى العفو ، ولها مهر المثل من تركة الزوج ; لأن النكاح لا يجوز إلا بالمهر ، والقصاص لا يصلح مهرا ; لأنه ليس بمال ، فيجب لها العوض الأصلي وهو مهر المثل ، فإن كان بلفظ الجراحة ، ولم يذكر وما يحدث منها فكذلك الجواب عندهما في العمد والخطأ ، وعند
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة - رحمه الله - بطل العفو إذا كان عمدا ، ولها مهر المثل من مال الزوج ، وتجب الدية من مالها ، فيتناقصان بقدر مهر المثل ، وتضمن المرأة الزيادة ، وإن كانت خطأ فتجب الدية على عاقلتها ، ولها مهر المثل من مال الزوج ، ولا ترث المرأة من مال الزوج شيئا ; لأنها قاتلة ، ولا ميراث للقاتل ، والله تعالى أعلم .
ولو كان مكان النكاح خلع بأن قطع يد امرأته أو جرحها جراحة فخلعها على ذلك فهو على ما ذكرنا أنها إن برئت جاز الخلع ، وكان بائنا ; لأنه تبين أنه خلعها على أرش اليد ، فصح الخلع ، وصار أرش اليد بدل الخلع ، والخلع على مال طلاق بائن ، ويستوي فيه العمد ، والخطأ لما مر ، وإن سرى إلى النفس ، وكان خطأ ، فإن ذكر بلفظ الجناية أو بلفظ الجراحة ، وما يحدث منها جاز الخلع ، ويكون بائنا ; لأنه تبين أن الفعل وقع قتلا ، فتبين أنه وقع موجبا للدية ، فكان الخلع واقعا على ماله ، وهو الدية ، فيصح ، ويكون بائنا ، ثم إن كانت المرأة صحيحة وقت الخلع جاز ذلك من جميع المال ، وإن كانت مريضة صارت الدية بدل الخلع ، ويعتبر خروج جميع الدية من الثلث بخلاف النكاح حيث يعتبر هناك خروج الزيادة على قدر مهر المثل من الثلث ; لأن تلك الحال حال دخول البضع في ملك الزوج ، وهذه حالة الخروج ، والبضع يعد مالا حال الدخول في ملك الزوج ، ولا يعد مالا حال الخروج عن ملكه ، وإن كان يخرج من الثلث سقط عن العاقلة ، وإن لم يكن لها مال يسقط ، والثلثان على العاقلة ، ويكون بمنزلة الوصية هذا في الخطأ ، فأما في العمد جاز العفو ، ولا يكون مالا ، وخلعها بغير مال يكون رجعيا ، وإن كان الخلع بلفظ الجراحة ، ولم يذكر وما يحدث منها فعندهما : كذلك الجواب ، وعند
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة - رحمه الله - لم يصح العفو ، وتجب جميع الدية في ماله في العمد ، وفي الخطأ على العاقلة ، ويكون
الخلع بغير مال فيكون الطلاق رجعيا ، والله تعالى أعلم .