بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
ثم يلبي في دبر كل صلاة ، وهو الأفضل عندنا ، وقال الشافعي الأفضل أن يلبي بعد ما استوى على راحلته ، وقال مالك بعد ما استوى على البيداء ، وإنما اختلفوا فيه لاختلاف الرواية في أول تلبية النبي صلى الله عليه وسلم ، روي عن ابن عباس رضي الله عنه { أنه لبى دبر صلاته } .

وروي عن ابن عمر رضي الله عنه { أنه لبى حين ما استوى على راحلته } .

وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنه { أنه صلى الله عليه وسلم لبى حين استوى على البيداء } ، وأصحابنا أخذوا برواية ابن عباس رضي الله عنه ; لأنها محكمة في الدلالة على الأولية ، ورواية ابن عمر وجابر رضي الله عنهما محتملة لجواز أن ابن عمر رضي الله عنه لم يشهد تلبية النبي صلى الله عليه وسلم دبر الصلاة ، وإنما شهد تلبيته حال استوائه على الراحلة فظن أن ذلك أول تلبيته فروى ما رأى ، وجابر لم ير تلبيته إلا عند استوائه على البيداء فظن أنه أول تلبيته فروى ما رأى .

والدليل على صحة هذا التأويل ما روي عن سعيد بن جبير أنه قال : قلت لابن عباس كيف اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلاله ؟ فقال : أنا أعلم بذلك ، صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد ذي الحليفة ركعتين ، وأهل بالحج ، وكانت ناقته مسرجة على باب المسجد ، وابن عمر عندها فرآه قوم فقالوا : أهل عقيب الصلاة ثم استوى على راحلته ، وأهل فكان الناس يأتونه أرسالا فأدركه قوم ، فقالوا : إنما أهل حين استوى على راحلته ثم ارتفع على البيداء فأهل فأدركه قوم فقالوا إنما أهل حين ارتفع على البيداء ، وأيم الله لقد أوجبه في مصلاه ، ويكثر التلبية بعد ذلك في أدبار الصلوات فرائض كانت أو نوافل ، وذكر الطحاوي أنه يكثر في أدبار المكتوبات دون النوافل والفوائت ، وأجراها مجرى التكبير في أيام التشريق ، والمذكور في ظاهر الرواية في أدبار الصلوات عاما من غير تخصيص ، ولأن فضيلة التلبية عقيب الصلاة لاتصالها بالصلاة التي هي ذكر الله عز وجل إذ الصلاة من أولها إلى آخرها ذكر الله تعالى ، وهذا يوجد في التلبية عقيب كل صلاة ، وكلما علا شرفا ، وكلما هبط واديا ، وكلما لقي ركبا ، وكلما استيقظ من منامه ، وبالأسحار لما روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا كانوا يفعلون ، ويرفع صوته بالتلبية لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { أفضل الحج العج ، والثج } ، والعج هو رفع الصوت بالتلبية ، والثج هو سيلان الدم ، وعن خلاد بن السائب الأنصاري عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { أتاني جبريل ، وأمرني أن آمر أصحابي ، ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعائر الحج } أمر برفع الصوت في التلبية ، وأشار إلى المعنى ، وهو أنها من شعائر الحج ، والسبيل في أذكار هي من شعائر الحج إشهارها ، وإظهارها كالأذان ونحوه ، والسنة أن يأتي بتلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي أن يقول : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد ، والنعمة لك ، والملك ، لا شريك لك كذا روي عن ابن مسعود ، وابن عمر هذه الألفاظ في تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم فالسنة أن يأتي بها ، ولا ينقص شيئا منها ، وإن زاد عليها فهو مستحب عندنا ، وعند الشافعي لا يزيد عليها كما لا ينقص منها ، وهذا غير سديد ; لأنه لو نقص منها لترك شيئا من السنة ، ولو زاد عليها فقد أتى بالسنة ، وزيادة .

والدليل عليه ما روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يزيدون على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يزيد : لبيك عدد التراب ، لبيك لبيك ذا المعارج ، لبيك لبيك إله الحق لبيك ، وكان ابن عمر يزيد : لبيك وسعديك ، والخير كله بيديك ، لبيك والرغباء إليك ، ويروى : والعمل والرغباء إليك ، ولأن هذا من باب الحمد لله تعالى ، والثناء عليه فالزيادة عليه تكون مستحبة لا مكروهة ، ثم اختلفت الرواية في تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الكلمة ، وهي قوله : لبيك ، إن الحمد ، والنعمة لك .

ورويت بالكسر والفتح ، والكسر أصح ، وهكذا ذكر محمد في الأصل أن الأفضل أن يقول بالكسر ، وإنما كان كذلك ; لأن معنى الفتح فيها يكون على التفسير أو التعليل ، أي ألبي بأن الحمد لك أو ألبي لأن الحمد لك ، أي لأجل أن الحمد لك ، وإذا كسرتها صار ما بعدها ثناء وذكرا ، مبتدأ لا تفسيرا ، ولا تعليلا ، فكان أبلغ في الذكر ، والثناء فكان أفضل .

التالي السابق


الخدمات العلمية