فصل
الحب أصل الحركة
وكل حركة في العالم العلوي والسفلي فأصلها المحبة ، فهي عليها الفاعلية والغائية ، وذلك لأن الحركات ثلاثة أنواع : حركة اختيارية إرادية ، وحركة طبيعية ، وحركة قسرية .
والحركة الطبيعية أصلها السكون ، وإنما يتحرك الجسم إذا خرج عن مستقره ومركزه الطبيعي ، فهو يتحرك للعود إليه ، وخروجه عن مركزه ومستقره إنما هو بتحريك القاصر المحرك له ، فله حركة قسرية تتحرك بتحريك محركه وقاسره ، وحركة طبيعية بذاتها يطلب بها العود إلى مركزه ، وكلا حركتيه تابعة للقاسر المحرك ، فهو أصل الحركتين .
والحركة الاختيارية الإرادية هي أصل الحركتين الأخريين ، وهي تابعة للإرادة والمحبة .
والدليل على انحصار الحركات في هذه الثلاث : أن المتحرك إن كان له شعور بالحركة فهي الإرادية ، وإن لم يكن له شعور بها ، فإما أن تكون على وفق طبعه أو لا ، فالأولى هي الطبيعية ، والثانية القسرية ، إذا ثبت هذا فما في السماوات والأرض وما بينهما من حركات الأفلاك والشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب والمطر والنبات وحركات الأجنة في
[ ص: 201 ] بطون أمهاتها ، فإنما هي بواسطة الملائكة والمدبرات أمرا والمقسمات أمرا ، كما دل على ذلك في نصوص من القرآن والسنة في غير موضع ، والإيمان بذلك من تمام الإيمان بالملائكة ، فإن الله وكل بالرحم ملائكة ، وبالقطر ملائكة ، وبالنبات ملائكة ، وبالرياح ملائكة ، وبالأفلاك والشمس والقمر والنجوم ، ووكل بكل عبد أربعة من الملائكة ، كاتبين عن يمينه وشماله ، وحافظين من بين يديه ومن خلفه ، ووكل ملائكة بقبض روحه وتجهيزها إلى مستقرها في الجنة والنار ، وملائكة بمساءلته وامتحانه في قبره ، وملائكة بتعذيبه في النار أو نعيمه في الجنة ، ووكل بالجبال ملائكة ، وبالسحاب ملائكة تسوقه حيث أمرت به ، وبالقطر ملائكة تنزل بأمر الله بقدر معلوم كما شاء الله ، ووكل ملائكة بغرس الجنة وعمل آلتها وفرشها والقيام عليها ، وملائكة بالنار كذلك .
فأعظم جند الله الملائكة ، ولفظ الملك يشعر بأنه رسول منفذ غيره وليس لهم من الأمر شيء ، بل الأمر كله لله ، وهم يدبرون الأمر ويقسمونه بأمر الله وإذنه ، قال تعالى إخبارا عنهم :
وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا [ سورة مريم : 64 ] .
وقال تعالى :
وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى [ سورة النجم : 26 ] .
وأقسم سبحانه بطوائف من الملائكة المنفذين لأمره في الخليفة كما قال تعالى :
والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا [ سورة الصافات : 1 - 3 ] .
وقال :
والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا [ سورة المرسلات : 1 - 6 ] .
وقال تعالى :
والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا [ سورة النازعات : 1 - 5 ] .
وقد ذكرنا معنى ذلك وسر الإقسام به في كتاب ( التبيان في أقسام القرآن ) .
[ ص: 202 ]
وإذا عرفت ذلك فجميع تلك المحبات والمحركات والإرادات والأفعال : هي عبادة منهم لرب الأرض والسماوات ، وجميع الحركات الطبيعية والقسرية تابعة لها ، فلولا الحب ما دارت الأفلاك ، ولا تحركت الكواكب النيرات ، ولا هبت الرياح المسخرات ، ولا مرت السحب الحاملات ، ولا تحركت الأجنة في بطون الأمهات ، ولا انصدع عن الحب أنواع النبات ، ولا اضطربت أمواج الزاخرات ، ولا تحركت المدبرات والمقسمات ، ولا سبحت بحمد فاطرها الأرضون والسماوات ، وما فيها من أنواع المخلوقات ، فسبحان من :
تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا [ سورة الإسراء : 44 ] .