فصل
الحب لله وحده
فإذا عرف ذلك فكل حي له إرادة ومحبة وعمل بحسبه ، وكل متحرك فأصل حركته المحبة والإرادة ،
ولا صلاح للموجودات إلا بأن تكون حركاتها ومحبتها لفاطرها وبارئها وحده ، كما لا وجود لها إلا بإبداعه وحده .
ولهذا
قال تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ سورة الأنبياء : 22 ] .
ولم يقل سبحانه : لما وجدتا ولكانتا معدومتين ، ولا قال : لعدمتا ، إذ هو سبحانه قادر على أن يبقيهما على وجه الفساد ، لكن لا يمكن أن يكونا على وجه الصلاح والاستقامة إلا بأن يكون الله وحده هو معبودهما ، ومعبود ما حوتاه وسكن فيهما ، فلو كان في العالم إلهان لفسد نظامه غاية الفساد ، فإن كل إله كان يطلب مغالبة الآخر ، والعلو عليه ، وتفرده دونه بإلهيته ، إذ الشركة نقص في كمال الإلهية ، والإله لا يرضى لنفسه أن يكون إلها ناقصا ، فإن قهر أحدهما الآخر كان هو الإله وحده ، والمقهور ليس بإله ، وإن لم يقهر أحدهما الآخر لزم عجز كل منهما ، ولم يكن تام الإلهية ، فيجب أن يكون فوقهما إله قاهر لهما حاكم عليهما ، وإلا ذهب كل منهما بما خلق ، وطلب كل منهما العلو على الآخر ، وفي ذلك فساد أمر السماوات والأرض ومن فيها ، كما هو المعهود من فساد البلد إذا كان فيها ملكان متكافئان ، وفساد الزوجة إذا كان لها بعلان ، والشول : إذا كان فيه فحلان .
وأصل فساد العالم إنما هو من اختلاف الملوك والخلفاء ، ولهذا لم يطمع أعداء الإسلام
[ ص: 203 ] فيه في زمن من الأزمنة إلا في زمن تعدد الملوك من المسلمين واختلافهم ، وانفراد كل منهم ببلاد ، وطلب بعضهم العلو على بعض .
فصلاح السماوات والأرض واستقامتها ، وانتظام أمر المخلوقات على أتم نظام من
أظهر الأدلة على أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ، وأن كل معبود من لدن عرشه إلى قرار أرضه باطل إلا وجهه الأعلى ، قال الله تعالى :
ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون [ سورة المؤمنون : 91 - 93 ] .
وقال تعالى :
أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون لا يسأل عما يفعل وهم يسألون [ سورة الأنبياء : 21 - 23 ] .
وقال تعالى :
قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا [ سورة الإسراء : 42 ] .
فقيل : لابتغوا السبيل إليه بالمغالبة والقهر كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض ، ويدل عليه قوله في الآية الأخرى :
ولعلا بعضهم على بعض .
قال شيخنا - رضي الله عنه - : والصحيح أن المعنى : لابتغوا إليه سبيلا بالتقرب إليه وطاعته ، فكيف تعبدونهم من دونه ؟ وهم لو كانوا آلهة كما يقولون لكانوا عبيدا له ، قال : ويدل على هذا وجوه :
منها : قوله تعالى :
أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه [ سورة الإسراء : 57 ] .
أي هؤلاء الذين تعبدونهم من دوني هم عبادي كما أنتم عبادي ، ويرجون رحمتي ويخافون عذابي ، فلماذا تعبدونهم من دوني ؟
الثاني : أنه سبحانه لم يقل لابتغوا عليه سبيلا ، بل قال : لابتغوا إليه سبيلا ، وهذا اللفظ إنما يستعمل في التقرب ، كقوله تعالى :
اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة [ سورة المائدة : 35 ] .
[ ص: 204 ] وأما في المغالبة فإنما يستعمل بعلى كقوله :
فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا [ سورة النساء : 34 ] .
والثالث : أنهم لم يقولوا إن آلهتهم تغالبه وتطلب العلو عليه ، وهو سبحانه قد قال :
قل لو كان معه آلهة كما يقولون وهم إنما كانوا يقولون : إن آلهتهم تبتغي التقرب إليه وتقربهم زلفى إليه ، فقالوا : لو كان الأمر كما تقولون لكانت تلك الآلهة عبيدا له ، فلماذا تعبدون عبيده من دونه ؟