فصل
الاغترار بالدنيا
وأعظم الخلق غرورا من اغتر بالدنيا وعاجلها ، فآثرها على الآخرة ، ورضي بها من الآخرة ، حتى يقول بعض هؤلاء : الدنيا نقد ، والآخرة نسيئة ، والنقد أحسن من النسيئة .
ويقول بعضهم : ذرة منقودة ، ولا درة موعودة .
ويقول آخر منهم : لذات الدنيا متيقنة ، ولذات الآخرة مشكوك فيها ، ولا أدع اليقين بالشك .
وهذا من أعظم تلبيس الشيطان وتسويله ، والبهائم العجم أعقل من هؤلاء ؛ فإن البهيمة إذا خافت مضرة شيء لم تقدم عليه ولو ضربت ، وهؤلاء يقدم أحدهم على ما فيه عطبه ، وهو بين مصدق ومكذب .
فهذا الضرب إن آمن أحدهم بالله ورسوله ولقائه والجزاء ، فهو من أعظم الناس حسرة ، لأنه أقدم على علم ، وإن لم يؤمن بالله ورسوله فأبعد له .
وقول هذا القائل : النقد خير من النسيئة .
جوابه أنه إذا تساوى النقد والنسيئة فالنقد خير ، وإن تفاوتا وكانت النسيئة أكبر وأفضل فهي خير ، فكيف والدنيا كلها من أولها إلى آخرها كنفس واحد من أنفاس الآخرة ؟
كما في مسند
أحمد nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي من حديث
المستورد بن شداد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949385ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع ؟
فإيثار هذا النقد على هذه النسيئة ، من أعظم الغبن وأقبح الجهل ، وإذا كان هذا نسبة الدنيا بمجموعها إلى الآخرة ، فما مقدار عمر الإنسان بالنسبة إلى الآخرة ، فأيما أولى بالعاقل ؟ إيثار العاجل في هذه المدة اليسيرة ، وحرمان الخير الدائم في الآخرة ، أم ترك شيء حقير صغير منقطع عن قرب ، ليأخذ ما لا قيمة له ولا خطر له ، ولا نهاية لعدده ، ولا غاية لأمده ؟
وأما قول الآخر : لا أترك متيقنا لمشكوك فيه ، فيقال له : إما أن تكون على شك من وعد الله ووعيده وصدق رسله ، أو تكون على
[ ص: 37 ] يقين من ذلك ، فإن كنت على اليقين فما تركت إلا ذرة عاجلة منقطعة فانية عن قرب ، لأنه متيقن لا شك فيه ولا انقطاع له .
وإن كنت على شك فراجع
آيات الرب تعالى الدالة على وجوده وقدرته ومشيئته ، ووحدانيته ، وصدق رسله فيما أخبروا به عن الله ، وتجرد وقم لله ناظرا أو مناظرا ، حتى يتبين لك أن ما جاءت به الرسل عن الله فهو الحق الذي لا شك فيه ، وأن خالق هذا العالم ورب السماوات والأرض يتعالى ويتقدس ويتنزه عن خلاف ما أخبرت به رسله عنه ، ومن نسبه إلى غير ذلك فقد شتمه وكذبه ، وأنكر ربوبيته وملكه ، إذ من المحال الممتنع عند كل ذي فطرة سليمة ، أن يكون الملك الحق عاجزا أو جاهلا ، لا يعلم شيئا ، ولا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم ، ولا يأمر ولا ينهى ، ولا يثيب ولا يعاقب ، ولا يعز من يشاء ، ولا يذل من يشاء ، ولا يرسل رسله إلى أطراف مملكته ونواحيها ، ولا يعتني بأحوال رعيته ، بل يتركهم سدى ويخليهم هملا ، وهذا يقدح في ملك آحاد ملوك البشر ولا يليق به ، فكيف يجوز نسبة الملك الحق المبين إليه ؟
وإذا تأمل الإنسان حاله من مبدأ كونه نطفة إلى حين كماله واستوائه تبين له أن من عني به هذه العناية ، ونقله إلى هذه الأحوال ، وصرفه في هذه الأطوار ، لا يليق به أن يهمله ويتركه سدى ، لا يأمره ولا ينهاه ولا يعرفه بحقوقه عليه ، ولا يثيبه ولا يعاقبه ، ولو تأمل العبد حق التأمل لكان كل ما يبصره وما لا يبصره دليلا له على التوحيد والنبوة والمعاد ، وأن القرآن كلامه ، وقد ذكرنا وجه الاستدلال بذلك في كتاب إيمان القرآن عند قوله :
فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم [ سورة الحاقة : 38 - 40 ] .
وذكرنا طرفا من ذلك عند قوله :
وفي أنفسكم أفلا تبصرون [ سورة الذاريات : 21 ] .
وأن الإنسان دليل نفسه على وجود خالقه وتوحيده ، وصدق رسله ، وإثبات صفات كماله .
فقد بان أن المضيع مغرور على التقديرين : تقدير تصديقه ويقينه ، وتقدير تكذيبه وشكه .
كيف يجتمع اليقين بالمعاد ، والتخلف عن العمل ؟
فإن قلت : كيف يجتمع التصديق الجازم الذي لا شك فيه بالمعاد والجنة والنار ويتخلف العمل ؟ وهل في الطباع البشرية أن يعلم العبد أنه مطلوب غدا إلى بين يدي بعض الملوك
[ ص: 38 ] ليعاقبه أشد عقوبة ، أو يكرمه أتم كرامة ، ويبيت ساهيا غافلا لا يتذكر موقفه بين يدي الملك ، ولا يستعد له ، ولا يأخذ له أهبته .
قيل : هذا لعمر الله سؤال صحيح وارد على أكثر هذا الخلق ، فاجتماع هذين الأمرين من أعجب الأشياء وهذا التخلف له عدة أسباب :
أحدها : ضعف العلم ، ونقصان اليقين ، ومن ظن أن العلم لا يتفاوت ، فقوله من أفسد الأقوال وأبطلها .
وقد سأل
إبراهيم الخليل ربه أن يريه إحياء الموتى عيانا بعد علمه بقدرة الرب على ذلك ، ليزداد طمأنينة ، ويصير المعلوم غيبا شهادة .
وقد روى أحمد في مسنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949386ليس الخبر كالمعاينة .
فإذا اجتمع إلى ضعف العلم عدم استحضاره ، أو غيبته عن القلب في كثير من أوقاته أو أكثرها لاشتغاله بما يضاده ، وانضم إلى ذلك تقاضي الطبع ، وغلبات الهوى ، واستيلاء الشهوة ، وتسويل النفس ، وغرور الشيطان ، واستبطاء الوعد ، وطول الأمل ، ورقدة الغفلة ، وحب العاجلة ، ورخص التأويل وإلف العوائد ، فهناك لا يمسك الإيمان إلا الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا ، وبهذا السبب يتفاوت الناس في الإيمان والأعمال ، حتى ينتهي إلى أدنى مثقال ذرة في القلب .
وجماع هذه الأسباب يرجع إلى ضعف البصيرة والصبر ، ولهذا مدح الله سبحانه أهل الصبر واليقين ، وجعلهم أئمة في الدين ، فقال تعالى :
منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون [ السجدة : 24 ]