فصل
وكشف الغطاء عن هذه المسألة أن يقال :
إن الله عز وجل أرسل رسله ، وأنزل كتبه ، وخلق السماوات والأرض ليعرف ويعبد
[ ص: 128 ] ويوحد ويكون الدين كله لله ، والطاعة كلها له ، والدعوة له ، كما قال تعالى :
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ سورة الذاريات : 56 ] .
وقال تعالى :
وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق [ سورة الحجر : 85 ] .
وقال تعالى :
الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما [ الطلاق : 12 ] .
وقال تعالى :
جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم [ سورة المائدة : 97 ] .
فأخبر سبحانه أن القصد بالخلق والأمر : أن يعرف بأسمائه وصفاته ، ويعبد وحده لا يشرك به ، وأن يقوم الناس بالقسط ، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض ، كما قال تعالى :
لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط [ الحديد : 25 ] .
فأخبر سبحانه أنه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل ، ومن
أعظم القسط التوحيد ، وهو رأس العدل وقوامه ، وإن الشرك لظلم عظيم ، فالشرك أظلم الظلم ، والتوحيد أعدل العدل ، فما كان أشد منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر ، وتفاوتها في درجاتها بحسب منافاتها له ، وما كان أشد موافقة لهذا المقصود فهو أوجب الواجبات وأفرض الطاعات .
فتأمل هذا الأصل حق التأمل ، واعتبر تفاصيله تعرف به حكمة أحكم الحاكمين ، وأعلم العالمين فيما فرضه على عباده ، وحرمه عليهم ، وتفاوت مراتب الطاعات والمعاصي .
فلما كان الشرك بالله منافيا بالذات لهذا المقصود كان
أكبر الكبائر على الإطلاق ، وحرم الله الجنة على كل مشرك ، وأباح دمه وماله وأهله لأهل التوحيد ، وأن يتخذوهم عبيدا لهم لما تركوا القيام بعبوديته ، وأبى الله سبحانه أن يقبل من مشرك عملا أو يقبل فيه
[ ص: 129 ] شفاعة أو يستجيب له في الآخرة دعوة ، أو يقيل له عثرة ، فإن المشرك أجهل الجاهلين بالله ، حيث جعل له من خلقه ندا ، وذلك غاية الجهل به ، كما أنه غاية الظلم منه ، وإن كان المشرك لم يظلم ربه وإنما ظلم نفسه .