وأما
اللفظات : فحفظها بأن لا يخرج لفظة ضائعة ، بل لا يتكلم إلا فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه ، فإذا أراد أن يتكلم بالكلمة نظر : هل فيها ربح وفائدة أم لا ؟ فإن لم يكن فيها ربح أمسك عنها ، وإن كان فيها ربح ، نظر : هل تفوته بها كلمة أربح منها ، فلا يضيعها بهذه ، وإذا أردت أن تستدل على ما في القلب ، فاستدل عليه بحركة اللسان ، فإنه يطلعك على ما في القلب ، شاء صاحبه أم أبى .
[ ص: 159 ] قال
nindex.php?page=showalam&ids=17335يحيى بن معاذ : القلوب كالقدور تغلي بما فيها ، وألسنتها مغارفها ، فانظر إلى الرجل حين يتكلم فإن لسانه يغترف لك بما في قلبه ، حلو وحامض ، وعذب وأجاج ، وغير ذلك ، ويبين لك طعم قلبه اغتراف لسانه ، أي كما تطعم بلسانك طعم ما في القدور من الطعام فتدرك العلم بحقيقته ، كذلك تطعم ما في قلب الرجل من لسانه ، فتذوق ما في قلبه من لسانه ، كما تذوق ما في القدر بلسانك .
وفي حديث
أنس المرفوع :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949490لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه .
nindex.php?page=hadith&LINKID=949491وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يدخل الناس النار ؟ فقال : الفم والفرج قال
الترمذي : حديث حسن صحيح .
وقد
nindex.php?page=hadith&LINKID=949492سأل معاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن العمل الذي يدخله الجنة ويباعده من النار ، فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - برأسه وعموده وذروة سنامه ، ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ قال : بلى يا رسول الله ، فأخذ بلسان نفسه ثم قال : كف عليك هذا ، فقال : وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : ثكلتك أمك يا معاذ ، وهل يكب الناس على وجوههم - أو على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم ؟ قال
الترمذي : حديث حسن صحيح .
ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنى والسرقة وشرب الخمر ، ومن النظر المحرم وغير ذلك ، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه ، حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة ، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالا ، ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد مما بين المشرق والمغرب ، وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ، ولا يبالي ما يقول .
وإذا أردت أن تعرف ذلك فانظر فيما رواه
مسلم في صحيحه من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=401جندب بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949493قال رجل : والله لا يغفر الله لفلان ، فقال الله عز وجل : من ذا الذي يتألى علي أني لا أغفر لفلان ؟ قد غفرت له وأحبطت عملك فهذا العابد الذي قد عبد الله ما شاء أن يعبده ، أحبطت هذه الكلمة الواحدة عمله كله .
وفي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة نحو ذلك ، ثم قال
nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة : تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته .
وفي الصحيحين من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949494إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا ؛ يرفعه الله بها درجات ، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله [ ص: 160 ] لا يلقي لها بالا ؛ يهوي بها في نار جهنم ، وعند
مسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949495إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب .
وعند
الترمذي من حديث
بلال بن الحارث المزني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949496إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت ، فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه ، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت ، فيكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه ، وكان
علقمة يقول : كم من كلام قد منعنيه حديث
بلال بن الحارث .
وفي جامع
الترمذي أيضا من حديث
أنس قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949497توفي رجل من الصحابة ، فقال رجل : أبشر بالجنة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وما يدريك ؟ لعله تكلم فيما لا يعنيه ، أو بخل بما لا ينقصه قال : حديث حسن .
وفي لفظ :
أن غلاما استشهد يوم أحد ، فوجد على بطنه صخرة مربوطة من الجوع ، فمسحت أمه التراب عن وجهه وقالت : هنيئا لك يا بني الجنة ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : وما يدريك ؟ لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ، ويمنع ما لا يضره .
وفي الصحيحين من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة يرفعه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949499من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليقل خيرا أو ليصمت .
وفي لفظ
لمسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949500من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فإذا شهد أمرا فليتكلم بخير أو ليسكت .
وذكر
الترمذي بإسناد صحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949501من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه .
وعن
سفيان بن عبد الله الثقفي قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949502قلت : يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك ، قال : قل آمنت بالله ثم استقم ، قلت : يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي ؟ فأخذ بلسان نفسه ، ثم قال : هذا ، والحديث صحيح .
وعن
أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949503كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر ، أو ذكر الله عز وجل ، قال
الترمذي : حديث حسن .
وفي حديث آخر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949504إذا أصبح العبد ، فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان ، تقول : اتق الله فينا فإنما نحن بك ، فإذا استقمت استقمنا ، وإن اعوججت اعوججنا .
وقد كان بعض السلف يحاسب أحدهم نفسه في قوله : يوم حار ، ويوم بارد .
ولقد رئي بعض
[ ص: 161 ] الأكابر من أهل العلم في النوم فسئل عن حاله ، فقال : أنا موقوف على كلمة قلتها ، قلت : ما أحوج الناس إلى غيث ، فقيل لي : وما يدريك ؟ أنا أعلم بمصلحة عبادي .
وقال بعض الصحابة لجاريته يوما : هاتي السفرة نعبث بها ، ثم قال : أستغفر الله ، ما أتكلم بكلمة إلا وأنا أخطمها وأزمها إلا هذه الكلمة خرجت مني بغير خطام ولا زمام ، أو كما قال .
وأيسر حركات الجوارح حركة اللسان وهي أضرها على العبد .
واختلف السلف والخلف هل يكتب جميع ما يلفظ به أو الخير والشر فقط ؟ على قولين أظهرهما الأول .
وقال بعض السلف : كل كلام ابن آدم عليه لا له ، إلا ما كان من الله وما والاه ، وكان
nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق - رضي الله عنه - يمسك على لسانه ويقول : هذا أوردني الموارد ، والكلام أسيرك ، فإذا خرج من فيك صرت أنت أسيره ، والله عند لسان كل قائل :
ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد .
وفي
اللسان آفتان عظيمتان ، إن خلص العبد من إحداهما لم يخلص من الأخرى : آفة الكلام ، وآفة السكوت ، وقد يكون كل منهما أعظم إثما من الأخرى في وقتها ، فالساكت عن الحق شيطان أخرس ، عاص لله ، مراء مداهن إذا لم يخف على نفسه ، والمتكلم بالباطل شيطان ناطق ، عاص لله ، وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته فهم بين هذين النوعين ، وأهل الوسط - وهم أهل الصراط المستقيم - كفوا ألسنتهم عن الباطل ، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة ، فلا ترى أحدهم يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة ، فضلا أن تضره في آخرته ، وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال ، فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها ، ويأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتصل به .