الخطوة وأما الخطوات : فحفظها بأن لا ينقل قدمه إلا فيما يرجو ثوابه ،
فإن لم يكن في خطاه مزيد ثواب ، فالقعود عنها خير له ، ويمكنه أن يستخرج من كل مباح يخطو إليه قربة ينويها لله ، فتقع خطاه قربة .
[ ص: 162 ] ولما كانت العثرة عثرتين : عثرة الرجل وعثرة اللسان ، جاءت إحداهما قرينة الأخرى في قوله تعالى :
وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما [ سورة الفرقان : 63 ] .
فوصفهم بالاستقامة في لفظاتهم وخطواتهم ، كما جمع بين اللحظات والخطرات في قوله تعالى :
يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور [ سورة غافر : 19 ] .
فصل
وهذا كله ذكرناه مقدمة بين يدي
تحريم الفواحش ووجوب حفظ الفرج ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949505أكثر ما يدخل الناس النار : الفم ، والفرج .
وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949506لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ، وهذا الحديث في اقتران الزنى بالكفر وقتل النفس ، نظير الآية التي في الفرقان ، ونظير حديث
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود .
وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأكثر وقوعا ، والذي يليه ، فالزنى أكثر وقوعا من قتل النفس ، وقتل النفس أكثر وقوعا من الردة ، وأيضا فإنه تنقل من الأكبر إلى ما هو أكبر منه ، ومفسدة الزنى مناقضة لصلاح العالم : فإن المرأة إذا زنت أدخلت العار على أهلها وزوجها وأقاربها ، ونكست رءوسهم بين الناس ، وإن حملت من الزنى ، فإن قتلت ولدها جمعت بين الزنى والقتل ، وإن حملته على الزوج أدخلت على أهله وأهلها أجنبيا ليس منهم ، فورثهم وليس منهم ، ورآهم وخلا بهم وانتسب إليهم وليس منهم ، إلى غير ذلك من مفاسد زناها .
وأما زنى الرجل فإنه يوجب اختلاط الأنساب أيضا ، وإفساد المرأة المصونة وتعريضها للتلف والفساد ، وفي هذه الكبيرة خراب الدنيا والدين ، وإن عمرت القبور في البرزخ والنار في الآخرة ، فكم في الزنى من استحلال لحرمات وفوات حقوق ووقوع مظالم ؟
ومن
خاصيته : أنه يوجب الفقر ، ويقصر العمر ، ويكسو صاحبه سواد الوجه ، وثوب المقت بين الناس .
ومن خاصيته أيضا : أنه يشتت القلب ويمرضه إن لم يمته ، ويجلب الهم والحزن والخوف ، ويباعد صاحبه من الملك ويقربه من الشيطان ، فليس بعد مفسدة القتل أعظم من
[ ص: 163 ] مفسدته ، ولهذا شرع فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها ، ولو بلغ العبد أن امرأته أو حرمته قتلت كان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زنت .
nindex.php?page=hadith&LINKID=949507وقال nindex.php?page=showalam&ids=228سعد بن عبادة - رضي الله عنه - : لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح ، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : تعجبون من غيرة سعد ؟ والله لأنا أغير منه ، والله أغير مني ، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن . متفق عليه .
وفي الصحيحين أيضا عنه - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949508إن الله يغار ، وإن المؤمن يغار ، وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه .
وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949425لا أحد أغير من الله ، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا أحد أحب إليه العذر من الله ، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ، ولا أحد أحب إليه المدح من الله ، من أجل ذلك أثنى على نفسه .
وفي الصحيحين في خطبته - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949509يا أمة محمد ، والله إنه لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته ، يا أمة محمد ، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ، ثم رفع يديه وقال : اللهم هل بلغت ؟ .
وفي ذكر هذه الكبيرة بخصوصها عقب صلاة الكسوف سر بديع لمن تأمله ، وظهور الزنى من أمارات خراب العالم ، وهو من أشراط الساعة ، كما في الصحيحين عن
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بن مالك أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949510لأحدثنكم حديثا لا يحدثكموه أحد بعدي ، سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويشرب الخمر ويظهر الزنى ويقل الرجال وتكثر النساء ، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد .
وقد جرت سنة الله سبحانه في خلقه أنه عند ظهور الزنى يغضب الله سبحانه وتعالى ويشتد غضبه ، فلا بد أن يؤثر غضبه في الأرض عقوبة .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود : ما ظهر الربا والزنى في قرية إلا أذن الله بإهلاكها .
ورأى بعض أحبار
بني إسرائيل ابنه يغمز امرأة ، فقال : مهلا يا بني ، فصرع الأب عن سريره فانقطع نخاعه وأسقطت امرأته ، وقيل له : هكذا غضبك لي ؟ لا يكون في جنسك خير أبدا .
وخص سبحانه حد الزنى من بين الحدود بثلاث خصائص :
أحدها : القتل فيه بأشنع القتلات ، وحيث خففه جمع فيه بين العقوبة على البدن بالجلد وعلى القلب بتغريبه عن وطنه سنة .
[ ص: 164 ] الثاني : أنه نهى عباده أن تأخذهم بالزناة رأفة في دينه ، بحيث تمنعهم من إقامة الحد عليهم ، فإنه سبحانه من رأفته بهم ورحمته بهم شرع هذه العقوبة ؛ فهو أرحم بكم ، ولم تمنعه رحمته من أمره بهذه العقوبة ، فلا يمنعكم أنتم ما يقوم بقلوبكم من الرأفة من إقامة أمره .
وهذا - وإن كان عاما في سائر الحدود - ولكن ذكر في حد الزنى خاصة لشدة الحاجة إلى ذكره ، فإن الناس لا يجدون في قلوبهم من الغلظة والقسوة على الزاني ما يجدونه على السارق والقاذف وشارب الخمر ، فقلوبهم ترحم الزاني أكثر مما ترحم غيره من أرباب الجرائم ، والواقع شاهد بذلك ، فنهوا أن تأخذهم هذه الرأفة وتحملهم على تعطيل حد الله .
وسبب هذه الرحمة : أن هذا ذنب يقع من الأشراف والأوساط والأراذل ، وفي النفوس أقوى الدواعي إليه ، والمشارك فيه كثير ، وأكثر أسبابه العشق ، والقلوب مجبولة إلى رحمة العاشق ، وكثير من الناس يعد مساعدته طاعة وقربة ، وإن كانت الصورة المعشوقة محرمة عليه ، ولا يستنكر هذا الأمر ، فهو مستقر عند ما شاء الله من أشباه الأنعام ، ولقد حكى لنا من ذلك شيئا كثيرا نقاص العقول كالخدام والنساء .
وأيضا فإن هذا ذنب غالبا ما يقع مع التراضي من الجانبين ، ولا يقع فيه من العدوان والظلم والاغتصاب ما تنفر النفوس منه .
وفي النفوس شهوة غالبة له فيصور ذلك لها ، فتقوم بها رحمة تمنع إقامة الحد ، وهذا كله من ضعف الإيمان . وكمال الإيمان أن تقوم به قوة يقيم بها أمر الله ، ورحمة يرحم بها المحدود ، فيكون موافقا لربه تعالى في أمره ورحمته .
الثالث : أنه سبحانه أمر أن يكون حدهما بمشهد من المؤمنين ، فلا يكون في خلوة بحيث لا يراهما أحد ، وذلك أبلغ في مصلحة الحد ، والحكمة الزجر ، وحد الزاني المحصن مشتق من عقوبة الله تعالى لقوم لوط بالقذف بالحجارة ، وذلك لاشتراك الزنا واللواط في الفحش ، وفي كل منهما فساد يناقض حكمة الله في خلقه وأمره ، فإن في اللواط من المفاسد ما يفوت الحصر والتعداد ، ولأن يقتل المفعول به خير له من أن يؤتى ، فإنه يفسد فسادا لا يرجى له بعده صلاح أبدا ، ويذهب خيره كله ، وتمص الأرض ماء الحياء من وجهه ، فلا يستحي بعد ذلك من الله ولا من خلقه ، وتعمل في قلبه وروحه نطفة الفاعل ما يعمل السم في البدن .
وقد اختلف الناس
هل يدخل الجنة مفعول به ؟ على قولين ، سمعت شيخ الإسلام يحكيهما .
والذين قالوا : لا يدخل الجنة احتجوا بأمور :
منها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949511لا يدخل الجنة ولد زنية فإذا كان هذا حال ولد الزنى مع
[ ص: 165 ] أنه لا ذنب له في ذلك ، ولكنه مظنة كل شر وخبث ، وهو جدير أن لا يجيء منه خير أبدا ، لأنه مخلوق من نطفة خبيثة ، وإذا كان الجسد الذي تربى على الحرام ، النار أولى به ، فكيف بالجسد المخلوق من النطفة الحرام ؟
قالوا : والمفعول به شر من ولد الزنى ، وأخزى وأخبث وأوقح ، وهو جدير أن لا يوفق لخير ، وأن يحال بينه وبينه ، وكلما عمل خيرا قيض الله له ما يفسده عقوبة له ، وقل أن ترى من كان كذلك في صغره إلا وهو في كبره شر مما كان ، ولا يوفق لعلم نافع ، ولا عمل صالح ، ولا توبة نصوح .
والتحقيق في المسألة أن يقال : إن تاب المبتلى بهذا البلاء وأناب ، ورزق توبة نصوحا وعملا صالحا ، وكان في كبره خيرا منه في صغره ، وبدل سيئاته بحسنات ، وغسل عار ذلك عنه بأنواع الطاعات والقربات ، وغض بصره وحفظ فرجه عن المحرمات ، وصدق الله في معاملته ، فهذا مغفور له وهو من أهل الجنة ، فإن الله يغفر الذنوب جميعا ، وإذا كانت التوبة تمحو كل ذنب ، حتى الشرك بالله وقتل أنبيائه وأوليائه والسحر والكفر وغير ذلك ، فلا تقصر عن محو هذا الذنب ، وقد استقرت حكمة الله تعالى به عدلا وفضلا أن :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949512التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، وقد ضمن الله سبحانه لمن تاب من الشرك وقتل النفس والزنى ، أنه يبدل سيئاته حسنات ، وهذا حكم عام لكل تائب من ذنب .
وقد قال تعالى :
قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم [ سورة الزمر : 53 ] .
فلا يخرج من هذا العموم ذنب واحد ، ولكن هذا في حق التائبين خاصة .
وأما المفعول به إن كان في كبره شرا مما كان في صغره ؛ لم يوفق لتوبة نصوح ، ولا لعمل صالح ، ولا استدراك ما فات ، ولا أبدل السيئات بالحسنات ، فهذا بعيد أن يوفق عند الممات لخاتمة يدخل بها الجنة ، عقوبة له على عمله ، فإن الله سبحانه وتعالى يعاقب على السيئة بسيئة أخرى ، وتتضاعف عقوبة السيئات بعضها ببعض ، كما يثيب على الحسنة بحسنة أخرى .
إذا نظرت إلى حال كثير من المحتضرين وجدتهم يحال بينهم وبين حسن الخاتمة ، عقوبة لهم على أعمالهم السيئة .
قال الحافظ
أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الإشبيلي رحمه الله :
واعلم أن
لسوء الخاتمة - أعاذنا الله منها - أسبابا ، ولها طرق وأبواب ، أعظمها
[ ص: 166 ] الانكباب على الدنيا ، والإعراض عن الأخرى ، والإقدام والجرأة على معاصي الله عز وجل ، وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة ، ونوع من المعصية ، وجانب من الإعراض ، ونصيب من الجرأة والإقدام ، فملك قلبه ، وسبى عقله وأطفأ نوره وأرسل عليه حجبه فلم تنفع فيه تذكرة ، ولا نجحت فيه موعظة ، فربما جاءه الموت على ذلك ، فسمع النداء من مكان بعيد ، فلم يتبين له المراد ، ولا علم ما أراد ، وإن كرر عليه الداعي وأعاد .
قال : ويروى أن بعض رجال
الناصر نزل الموت به ، فجعل ابنه يقول : قل لا إله إلا الله ، فقال :
الناصر مولاي ، فأعاد عليه القول ، فأعاد مثل ذلك ، ثم أصابته غشية ، فلما أفاق قال :
الناصر مولاي ، وكان هذا دأبه كلما قيل له قل : لا إله إلا الله ، قال :
الناصر مولاي ، ثم قال لابنه : يا فلان
، الناصر إنما يعرفك بسيفك ، والقتل القتل ، ثم مات .
قال
عبد الحق : وقيل لآخر - ممن أعرفه - قل لا إله إلا الله . فجعل يقول : الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا ، والبستان الفلاني افعلوا فيه كذا .
وقال : وفيما أذن
nindex.php?page=showalam&ids=14508أبو طاهر السلفي أن أحدث به عنه : أن رجلا نزل به الموت ، فقيل له : قل لا إله إلا الله ، فجعل يقول بالفارسية : ده يازده ده وازده ، تفسيره : عشر بأحد عشر .
وقيل لآخر : قل لا إله إلا الله ، فجعل يقول :
أين الطريق إلى حمام منجاب
قال : وهذا الكلام له قصة ، وذلك أن رجلا كان واقفا بإزاء داره ، وكان بابها يشبه باب هذا الحمام ، فمرت به جارية لها منظر ، فقالت : أين الطريق إلى حمام منجاب ؟ فقال : هذا حمام منجاب ، فدخلت الدار ودخل وراءها ، فلما رأت نفسها في داره وعلمت أنه قد خدعها ، أظهرت له البشرى والفرح باجتماعها معه ، وقالت له : يصلح أن يكون معنا ما يطيب به عيشنا وتقر به عيوننا ، فقال لها : الساعة آتيك بكل ما تريدين وتشتهين ، وخرج وتركها في الدار ولم يغلقها ، فأخذ ما يصلح ورجع ، فوجدها قد خرجت وذهبت ، ولم تخنه في شيء ، فهام الرجل وأكثر الذكر لها ، وجعل يمشي في الطرق والأزقة ويقول :
يا رب قائلة يوما وقد تعبت كيف الطريق إلى حمام منجاب ؟
فبينما هو يوما يقول ذلك ، إذا بجاريته أجابته من طاق :
هلا جعلت سريعا إذ ظفرت بها حرزا على الدار أو قفلا على الباب
فازداد هيمانه واشتد ، ولم يزل على ذلك ، حتى كان هذا البيت آخر كلامه من الدنيا .
[ ص: 167 ] ولقد بكى
nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري ليلة إلى الصباح ، فلما أصبح قيل له : كل هذا خوفا من الذنوب ؟ فأخذ تبنة من الأرض ، وقال : الذنوب أهون من هذا ، وإنما أبكي من خوف سوء الخاتمة .
وهذا من أعظم الفقه : أن يخاف الرجل أن تخذله ذنوبه عند الموت ، فتحول بينه وبين الخاتمة الحسنى .
وقد ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد عن
nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء أنه لما احتضر جعل يغمى عليه ثم يفيق ويقرأ :
ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون [ سورة الأنعام : 110 ] .
فمن هذا خاف السلف من الذنوب ، أن تكون حجابا بينهم وبين الخاتمة الحسنى .
قال : واعلم أن سوء الخاتمة - أعاذنا الله تعالى منها - لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه ، ما سمع بهذا ولا علم به ولله الحمد ، وإنما تكون لمن له فساد في العقد ، أو إصرار على الكبائر ، وإقدام على العظائم ، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة ، فيأخذه قبل إصلاح الطوية ، ويصطلمه قبل الإنابة فيظفر به الشيطان عند تلك الصدمة ، ويختطفه عند تلك الدهشة ، والعياذ بالله .
قال : ويروى أنه كان
بمصر رجل يلزم مسجدا للأذان والصلاة ، وعليه بهاء الطاعة وأنوار العبادة ، فرقي يوما المنارة على عادته للأذان ، وكان تحت المنارة دار لنصراني ، فاطلع فيها ، فرأى ابنة صاحب الدار فافتتن بها ، فترك الأذان ، ونزل إليها ، ودخل الدار عليها ، فقالت له : ما شأنك وما تريد ؟ قال : أريدك ، فقالت : لماذا ؟ قال : قد سبيت لبي ، وأخذت بمجامع قلبي ، قالت : لا أجيبك إلى ريبة أبدا ، وقال : أتزوجك ؟ قالت : أنت مسلم وأنا نصرانية وأبي لا يزوجني منك ، قال : أتنصر ، قالت : إن فعلت أفعل ، فتنصر الرجل ليتزوجها ، وأقام معهم في الدار ، فلما كان في أثناء ذلك اليوم ، رقي إلى سطح كان في الدار فسقط منه فمات ، فلم يظفر بها ، وفاته دينه .
قال : ويروى أن رجلا عشق شخصا فاشتد كلفه به ، وتمكن حبه من قلبه ، حتى وقع ألم به ولزم الفراش بسببه ، وتمنع ذلك الشخص عليه ، واشتد نفاره عنه ، فلم تزل الوسائط يمشون بينهما حتى وعده بأن يعوده ، فأخبره بذلك الناس ، ففرح واشتد سروره وانجلى غمه ، وجعل ينتظر الميعاد الذي ضرب له ، فبينا هو كذلك إذ جاءه الساعي بينهما ، فقال : إنه وصل معي إلى بعض الطريق ورجع ، ورغبت إليه وكلمته ، فقال : إنه ذكرني وصرح بي ، ولا أدخل مداخل الريبة ولا أعرض نفسي لمواقع التهم ، فعاودته فأبى وانصرف ، فلما سمع
[ ص: 168 ] البائس أسقط في يده ، وعاد إلى أشد مما كان به ، وبدت عليه علائم ، فجعل يقول في تلك الحال :
يا سلم يا راحة العليل ويا شفا المدنف النحيل
رضاك أشهى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليل
فقلت له : يا فلان اتق الله ، قال : قد كان ، فقمت عنه ، فما جاوزت باب داره حتى سمعت صيحة الموت ، فعياذا بالله من سوء العاقبة ، وشؤم الخاتمة .