الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

عقوبة اللواط

ولما كانت مفسدة اللواط من أعظم المفاسد ؛ كانت عقوبته في الدنيا والآخرة من أعظم العقوبات .

وقد اختلف الناس : هل هو أغلظ عقوبة من الزنى ، أو الزنى أغلظ عقوبة منه ، أو عقوبتهما سواء ؟ على ثلاثة أقوال :

فذهب أبو بكر الصديق ، وعلي بن أبي طالب ، وخالد بن الوليد ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عباس ، وخالد بن زيد ، وعبد الله بن معمر ، والزهري ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن ، ومالك ، وإسحاق بن راهويه ، والإمام أحمد - في أصح الروايتين عنه - والشافعي - في أحد قوليه - إلى أن عقوبته أغلظ من عقوبة الزنى ، وعقوبته القتل على كل حال ، محصنا كان أو غير محصن .

وذهب عطاء بن أبي رباح ، والحسن البصري ، وسعيد بن المسيب ، وإبراهيم النخعي ، وقتادة ، والأوزاعي ، والشافعي - في ظاهر مذهبه - ، والإمام أحمد - في الرواية الثانية عنه - ، وأبو يوسف ، ومحمد : إلى أن عقوبته وعقوبة الزاني سواء .

وذهب الحاكم وأبو حنيفة إلى أن عقوبته دون عقوبة الزاني ، وهي التعزير .

قالوا : لأنه معصية من المعاصي لم يقدر الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيه حدا مقدرا ، فكان فيه التعزير ، كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير .

قالوا : ولأنه وطء في محل لا تشتهيه الطباع ، بل ركبها الله تعالى على النفرة منه حتى الحيوان البهيم ، فلم يكن فيه حد كوطء الأتان وغيرها .

قالوا : ولأنه لا يسمى زانيا لغة ولا شرعا ولا عرفا ، فلا يدخل في النصوص الدالة على حد الزانين .

[ ص: 169 ] قالوا : وقد رأينا قواعد الشريعة ، أن المعصية إذا كان الوازع عنها طبيعيا اكتفي بذلك الوازع من الحد ، وإذا كان في الطباع تقاضيها ، جعل في الحد بحسب اقتضاء الطباع لها ، ولهذا جعل الحد في الزنى والسرقة وشرب المسكر دون أكل الميتة والدم ولحم الخنزير .

قالوا : وطرد هذا ، أنه لا حد في وطء البهيمة ولا الميتة ، وقد جبل الله سبحانه الطباع على النفرة من وطء الرجل رجلا مثله أشد نفرة ، كما جبلها على النفرة من استدعاء الرجل من يطؤه بخلاف الزنى ، فإن الداعي فيه من الجانبين .

قالوا : ولأن أحد النوعين إذا استمتع بشكله لم يجب عليه الحد ، كما تساحقت المرأتان واستمتعت كل واحدة منهما بالأخرى .

قال أصحاب القول الأول : وهو جمهور الأمة ، وحكاه غير واحد إجماعا للصحابة ، ليس في المعاصي أعظم مفسدة من هذه المفسدة ، وهي تلي مفسدة الكفر ، وربما كانت أعظم من مفسدة القتل ، كما سنبينه إن شاء الله تعالى .

قالوا : ولم يبتل الله تعالى بهذه الكبيرة قبل قوم لوط أحدا من العالمين ، وعاقبهم عقوبة لم يعاقب بها أحدا غيرهم ، وجمع عليهم من أنواع العقوبات بين الإهلاك ، وقلب ديارهم عليهم ، والخسف بهم ، ورجمهم بالحجارة من السماء ، فنكل بهم نكالا لم ينكله أمة سواهم ، وذلك لعظم مفسدة هذه الجريمة التي تكاد الأرض تميد من جوانبها إذا عملت عليها ، وتهرب الملائكة إلى أقطار السماوات والأرض إذا شاهدوها ، خشية نزول العذاب على أهلها ، فيصيبهم معهم ، وتعج الأرض إلى ربها تبارك وتعالى ، وتكاد الجبال تزول عن أماكنها ، وقتل المفعول به خير له من وطئه ، فإنه إذا وطئه قتله قتلا لا ترجى الحياة معه بخلاف قتله فإنه مظلوم شهيد ، وربما ينتفع به في آخرته .

قالوا : والدليل على هذا : أن الله سبحانه جعل حد القاتل إلى خيرة الولي ، إن شاء قتل وإن شاء عفا ، وحتم قتل اللوطي حدا ، كما أجمع عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ودلت عليه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصريحة التي لا معارض لها ، بل عليها عمل أصحابه وخلفائه الراشدين - رضي الله عنهم أجمعين - .

وقد ثبت عن خالد بن الوليد : أنه وجد في بعض ضواحي العرب رجلا ينكح كما تنكح المرأة ، فكتب إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فاستشار أبو بكر الصديق الصحابة - رضي الله عنهم - فكان علي بن أبي طالب أشدهم قولا فيه ، فقال : ما فعل هذا إلا أمة من الأمم واحدة ، وقد علمتم ما فعل الله بها ، أرى أن يحرق بالنار ، فكتب أبو بكر إلى خالد فحرقه .

[ ص: 170 ] وقال عبد الله بن عباس : ينظر أعلى بناء في القرية ، فيرمى اللوطي منها منكبا ، ثم يتبع بالحجارة .

وأخذ عبد الله بن عباس هذا الحد من عقوبة الله قوم لوط ، وابن عباس هو الذي روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط ، فاقتلوا الفاعل والمفعول به .

رواه أهل السنن وصححه ابن حبان وغيره ، واحتج الإمام أحمد بهذا الحديث ، وإسناده على شرط البخاري .

قالوا : وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لعن الله من عمل عمل قوم لوط ، لعن الله من عمل عمل قوم لوط ، لعن الله من عمل عمل قوم لوط ولم يجئ عنه لعنة الزاني ثلاث مرات في حديث واحد ، وقد لعن جماعة من أهل الكبائر ، فلم يتجاوز بهم في اللعن مرة واحدة ، وكرر لعن اللوطية ، وأكده ثلاث مرات ، وأطبق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قتله ، لم يختلف منهم فيه رجلان ، وإنما اختلفت أقوالهم في صفة قتله ، فظن الناس أن ذلك اختلافا منهم في قتله ، فحكاها مسألة نزاع بين الصحابة ، وهي بينهم مسألة إجماع لا مسألة نزاع .

قالوا : ومن تأمل قوله سبحانه : ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا [ سورة الإسراء : 32 ] .

وقوله في اللواط : أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين [ سورة الأعراف : 80 ] .

تبين له تفاوت ما بينهما ، وأنه سبحانه نكر الفاحشة في الزنى ، أي هو فاحشة من الفواحش ، وعرفها في اللواط ، وذلك يفيد أنه جامع لمعاني اسم الفاحشة ، كما تقول : زيد الرجل ، ونعم الرجل زيد ، أي أتأتون الخصلة التي استقر فحشها عند كل أحد ، فهي لظهور فحشها وكماله غنية عن ذكرها ، بحيث لا ينصرف الاسم إلى غيرها ، وهذا نظير قول فرعون لموسى : وفعلت فعلتك التي فعلت [ سورة الشعراء : 19 ] .

أي الفعلة الشنعاء الظاهرة المعلومة لكل أحد .

ثم أكد سبحانه شأن فحشها بأنها لم يعملها أحد من العالمين قبلهم ، فقال : ما سبقكم بها من أحد من العالمين ، ثم زاد في التأكيد بأن صرح بما تشمئز منه القلوب ، وتنبو [ ص: 171 ] عنه الأسماع ، وتنفر منه الطباع أشد نفرة ، وهو إتيان الرجل رجلا مثله ينكحه كما ينكح الأنثى ، فقال : إنكم لتأتون الرجال [ سورة الأعراف : 81 ] .

ثم نبه على استغنائهم عن ذلك ، وأن الحامل لهم عليه ليس إلا مجرد الشهوة لا الحاجة التي لأجلها مال الذكر إلى الأنثى ، ومن قضاء الوطر ولذة الاستمتاع ، وحصول المودة والرحمة التي تنسى المرأة لها أبويها ، وتذكر بعلها ، وحصول النسل الذي هو حفظ هذا النوع الذي هو أشرف المخلوقات ، وتحصين المرأة وقضاء وطرها ، وحصول علاقة المصاهرة التي هي أخت النسب ، وقيام الرجال على النساء ، وخروج أحب الخلق إلى الله من جماعهن كالأنبياء والأولياء والمؤمنين ، ومكاثرة النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنبياء بأمته إلى غير ذلك من مصالح النكاح ، والمفسدة التي في اللواط تقاوم ذلك كله ، وتربي عليه بما لا يمكن حصر فساده ، ولا يعلم تفصيله إلا الله .

ثم أكد قبح ذلك بأن اللوطية عكسوا فطرة الله التي فطر الله عليها الرجال ، وقلبوا الطبيعة التي ركبها الله في الذكور ، وهي شهوة النساء دون الذكور ، فقلبوا الأمر ، وعكسوا الفطرة والطبيعة فأتوا الرجال شهوة من دون النساء ، ولهذا قلب الله سبحانه عليهم ديارهم ، فجعل عاليها سافلها ، وكذلك قلبوا هم ، ونكسوا في العذاب على رؤوسهم .

ثم أكد سبحانه قبح ذلك بأن حكم عليهم بالإسراف وهو مجاوزة الحد ، فقال : بل أنتم قوم مسرفون [ سورة الأعراف : 81 ] .

فتأمل هل جاء مثل ذلك أو قريب منه في الزنى ؟

وأكد سبحانه ذلك عليهم بقوله : ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث [ سورة الأنبياء : 74 ] .

ثم أكد سبحانه عليهم الذم بوصفين في غاية القبح فقال : إنهم كانوا قوم سوء فاسقين [ سورة الأنبياء : 74 ] .

وسماهم مفسدين في قول نبيهم : رب انصرني على القوم المفسدين [ سورة العنكبوت : 30 ] .

[ ص: 172 ] وسماهم ظالمين في قول الملائكة لإبراهيم : إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين [ سورة العنكبوت : 31 ] .

فتأمل من عوقب بمثل هذه العقوبات ، ومن ذمه الله بمثل هذه المذمات ، ولما جادل فيهم خليله إبراهيم الملائكة ، وقد أخبروه بإهلاكهم قيل له : ياإبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود [ سورة هود : 76 ] .

وتأمل خبث اللوطية وفرط تمردهم على الله حيث جاءوا نبيهم لوطا لما سمعوا بأنه قد طرقه أضياف هم من أحسن البشر صورا ، فأقبل اللوطية إليهم يهرولون ، فلما رآهم قال لهم : ياقوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم [ سورة هود : 78 ] .

ففدى أضيافه ببناته يزوجهم بهم خوفا على نفسه وأضيافه من العار الشديد ، فقال : ياقوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد ، فردوا عليه ، ولكن رد جبار عنيد : لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد [ سورة هود : 79 ] .

فنفث نبي الله منه نفثة مصدور خرجت من قلب مكروب ، فقال : لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد فنفس له رسل الله عن حقيقة الحال ، وأعلموه أنهم ممن ليسوا يوصل إليهم ، ولا إليه بسببهم ، فلا تخف منهم ، ولا تعبأ بهم ، وهون عليك ، فقالوا : يالوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك وبشروه بما جاءوا به من الوعد له ولقومه من الوعيد المصيب فقالوا : فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب [ سورة هود : 81 ] .

فاستبطأ نبي الله موعد هلاكهم ، وقال : أريد أعجل من هذا ، فقالت الملائكة : أليس الصبح بقريب فوالله ما كان بين إهلاك أعداء الله ونجاة نبيه وأوليائه إلا ما بين السحر [ ص: 173 ] وطلوع الفجر ، وإذا بديارهم قد اقتلعت من أصلها ، ورفعت نحو السماء حتى سمعت الملائكة نباح الكلاب ونهيق الحمير ، فبرز المرسوم الذي لا يرد من عند الرب الجليل ، إلى عبده ورسوله جبرائيل ، بأن قلبها عليهم كما أخبر به في محكم التنزيل ، فقال عز من قائل : فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل [ سورة هود : 82 ] فجعلهم آية للعالمين وموعظة للمتقين ، ونكالا وسلفا لمن شاركهم في أعمالهم من المجرمين ، وجعل ديارهم بطريق السالكين ، إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم إن في ذلك لآية للمؤمنين [ سورة الحجر : 75 - 77 ] .

أخذهم على غرة وهم نائمون ، وجاءهم بأسه وهم في سكرتهم يعمهون ، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ، فقلبت تلك اللذة آلاما ، فأصبحوا بها يعذبون .


مآرب كانت في الحياة لأهلها عذابا فصارت في الممات عذابا



ذهبت اللذات وأعقبت الحسرات ، وانقضت الشهوات ، وأورثت الشقوات ، وتمتعوا قليلا ، وعذبوا طويلا ، رتعوا مرتعا وخيما فأعقبهم عذابا أليما ، أسكرتهم خمرة تلك الشهوات ، فما استفاقوا منها إلا في ديار المعذبين ، وأرقدتهم تلك الغفلة ، فما استيقظوا منها إلا وهم في منازل الهالكين ، فندموا والله أشد الندامة حين لا ينفع الندم ، وبكوا على ما أسلفوه بدل الدموع بالدم ، فلو رأيت الأعلى والأسفل من هذه الطائفة ، والنار تخرج من منافذ وجوههم وأبدانهم وهم بين أطباق الجحيم ، وهم يشربون بدل لذيذ الشراب كئوس الحميم ، ويقال لهم وهم على وجوههم يسحبون : ذوقوا ما كنتم تكسبون اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون [ سورة الطور : 16 ] .

وقد قرب الله سبحانه مسافة العذاب بين هذه الأمة وبين إخوانهم في العمل ، فقال مخوفا لهم أن يقع الوعيد : وما هي من الظالمين ببعيد [ سورة هود : 83 ] .


فيا ناكحي الذكران يهنيكم البشرى     فيوم معاد الناس إن لكم أجرا
كلوا واشربوا وازنوا ولوطوا وأبشروا     فإن لكم زفرا إلى الجنة الحمرا
فإخوانكم قد مهدوا الدار قبلكم     وقالوا إلينا عجلوا لكم البشرى
[ ص: 174 ]

وها نحن أسلاف لكم في انتظاركم     سيجمعنا الجبار في ناره الكبرى
ولا تحسبوا أن الذين نكحتمو     يغيبون عنكم بل ترونهم جهرا
ويلعن كلا منكما بخليله     ويشقى به المحزون في الكرة الأخرى
يعذب كلا منهما بشريكه     كما اشتركا في لذة توجب الوزرا



التالي السابق


الخدمات العلمية