فصل
توحيد المحبوب
إذا عرفت هذه المقدمة فلا يمكن أن يجتمع في القلب حب المحبوب الأعلى وعشق الصور أبدا ، بل هما ضدان لا يتلاقيان ، بل لا بد أن يخرج أحدهما صاحبه ، فمن كانت قوة حبه كلها للمحبوب الأعلى الذي محبة ما سواه باطلة وعذاب على صاحبها صرفه ذلك عن
[ ص: 182 ] محبة ما سواه ، وإن أحبه لم يحبه إلا لأجله ، أو لكونه وسيلة إلى محبته ، أو قاطعا له عما يضاد محبته وينقصها ، والمحبة الصادقة تقتضي توحيد المحبوب ، وأن لا يشرك بينه وبين غيره في محبته ، وإذا كان المحبوب من الخلق يأنف ويغار أن يشرك معه محبة غيره في محبته ، ويمقته لذلك ، ويبعده لا يحظيه بقربه ، ويعده كاذبا في دعوى محبته ، مع أنه ليس أهلا لصرف كل قوة المحبة إليه ، فكيف بالحبيب الأعلى الذي لا تنبغي المحبة إلا له وحده ، وكل محبة لغيره فهي عذاب على صاحبها ووبال ؟ ولهذا لا يغفر الله سبحانه أن يشرك به في هذه المحبة ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .
فمحبة الصور تفوت محبة ما هو أنفع للعبد ، بل تفوت محبة ما ليس له صلاح ولا نعيم ، ولا حياة نافعة إلا بمحبته وحده ، فليختر إحدى المحبتين فإنهما لا يجتمعان في القلب ولا يرتفعان منه ، بل من أعرض عن محبة الله وذكره والشوق إلى لقائه ، ابتلاه بمحبة غيره ؛ فيعذبه بها في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة ، فإما أن يعذبه بمحبة الأوثان ، أو بمحبة الصلبان ، أو بمحبة المردان ، أو بمحبة النسوان ، أو بمحبة العشراء والإخوان ، أو بمحبة ما دون ذلك مما هو في غاية الحقارة والهوان ، فالإنسان عبد محبوبه كائنا من كان ، كما قيل :
أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي
فمن لم يكن إلهه مالكه ومولاه ، كان إلهه هواه ، قال تعالى :
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون [ سورة الجاثية : 23 ] .