فصل
إيثار الأعلى
وقد تقدم أن العبد لا يترك ما يحبه ويهواه ، ولكن يترك أضعفهما محبة لأقواهما محبة ،
[ ص: 192 ] كما أنه يفعل ما يكرهه ؛ لحصول ما محبته أقوى عنده من كراهة ما يفعله ، أو لخلاصه من مكروه .
وتقدم أن خاصية العقل إيثار أعلى المحبوبين على أدناهما ، وأيسر المكروهين على أقواهما ، وتقدم أن هذا من كمال
قوة الحب والبغض .
ولا يتم له هذا إلا بأمرين : قوة الإدراك ، وشجاعة القلب ، فإن التخلف عن ذلك والعمل بخلافه يكون إما لضعف الإدراك بحيث إنه لم يدرك مراتب المحبوب والمكروه على ما هي عليه ، إما لضعف في النفس ، وعجز في القلب ، بحيث لا يطاوعه على إيثار الأصلح ؛ لرفع علمه بأنه الأصلح ، فإذا صح إدراكه ، وقويت نفسه ، وتشجع قلبه على إيثار المحبوب الأعلى والمكروه الأدنى فقد وفق لأسباب السعادة .
فمن الناس من يكون سلطان شهوته أقوى من سلطان عقله وإيمانه ، فيقهر الغالب الضعيف ، ومنهم من يكون سلطان إيمانه وعقله أقوى من سلطان شهوته ، وإذا كان كثير من المرضى يحميه الطبيب عما يضره ، فتأبى عليه نفسه وشهوته إلا تناوله ، ويقدم شهوته على عقله ، وتسميه الأطباء : عديم المروءة ، فهكذا أكثر مرضى القلوب يؤثرون ما يزيد مرضهم ، لقوة شهوتهم له .
فأصل الشر من ضعف الإدراك وضعف النفس ودناءتها ، وأصل الخير من كمال الإدراك وقوة النفس وشرفها وشجاعتها .
فالحب والإرادة أصل كل فعل ومبدؤه ، والبغض والكراهة أصل كل ترك ومبدؤه ، وهاتان القوتان في القلب ، أصل سعادة العبد وشقاوته .
ووجود الفعل الاختياري لا يكون إلا بوجود سببه من الحب والإرادة .
وأما عدم الفعل : فتارة يكون لعدم مقتضيه وسببه ، وتارة يكون لوجود البغض والكراهة المانعة منه ، وهذا متعلق الأمر والنهي وهو الذي يسمى الكف ، وهو متعلق الثواب والعقاب ، وبهذا يزول الاشتباه في مسألة الترك وهل هو أمر وجودي أو عدمي ؟ والتحقيق أنه قسمان : فالترك المضاف إلى عدم السبب المقتضي عدمي ، والمضاف إلى السبب المانع من الفعل وجودي .