فصل
إيثار الأنفع
وكل واحد من الفعل والترك الاختياريين إنما يؤثره الحي لما فيه من حصول المنفعة
[ ص: 193 ] التي يلتذ بحصولها ، أو زوال الألم الذي يحصل له الشفاء بزواله ، ولهذا يقال : شفى صدره ، وشفى قلبه ، وقال :
هي الشفاء لدائي لو ظفرت بها وليس منها شفاء الداء مبذول
وهذا مطلوب يؤثره العاقل بل الحيوان البهيم ، ولكن يغلط فيه أكثر الناس غلطا قبيحا ، فيقصد حصول اللذة بما يعقب عليه أعظم الألم ، فيؤلم نفسه من حيث يظن أنه يحصل لذتها ، ويشفي قلبه بما يعقب عليه غاية المرض ، وهذا شأن من قصر نظره على العاجل ولم يلاحظ العواقب ، وخاصة العقل الناظر في العواقب ، فأعقل الناس من آثر لذته وراحته في الآجلة الدائمة على العاجلة المنقضية الزائلة ، وأسفه الخلق من باع نعيم الأبد وطيب الحياة الدائمة واللذة العظمى التي لا تنغيص فيها ولا نقص بوجه ما ، بلذة منقضية مشوبة بالآلام والمخاوف ، وهي سريعة الزوال وشيكة الانقضاء .
قال بعض العلماء : " فكرت فيما يسعى فيه العقلاء ، فرأيت سعيهم كلهم في مطلوب واحد وإن اختلفت طرقهم في تحصيله ، رأيتهم جميعهم إنما يسعون في دفع الهم والغم عن نفوسهم ، فهذا بالأكل والشرب ، وهذا بالتجارة والكسب ، وهذا بالنكاح ، وهذا بسماع الغناء والأصوات المطربة ، وهذا باللهو واللعب ، فقلت : هذا المطلوب مطلوب العقلاء ، ولكن الطرق كلها غير موصلة إليه ، بل لعل أكثرها إنما يوصل إلى ضده ، ولم أر في جميع هذه الطرق طريقا موصلة إليه إلا الإقبال على الله وحده ، ومعاملته وحده ، وإيثار مرضاته على كل شيء " .
فإن سالك هذا الطريق إن فاته حظه من الدنيا فقد ظفر بالحظ العالي الذي لا فوت معه ، وإن حصل للعبد حصل له كل شيء ، وإن فاته فاته كل شيء ، وإن ظفر بحظه من الدنيا ناله على أهنأ الوجوه ، فليس للعبد أنفع من هذه الطرق ، ولا أوصل منها إلى لذته وبهجته وسعادته ، وبالله التوفيق .