ذكر
بعض سيرته
تأخر
الهادي عن المظالم ثلاثة أيام ، فقال له
الحراني : يا أمير المؤمنين ! إن العامة لا تحتمل هذا . فقال
لعلي بن صالح : إيذن للناس علي بالجفلى ، لا بالنقرى .
فخرج من عنده ولم يفهم قوله ، ولم يجسر على مراجعته ، فأحضر أعرابيا ، فسأله عن ذلك ، فقال : الجفلى أن تأذن لعامة الناس ، فأذن لهم فدخل الناس عن آخرهم ، ونظر في
[ ص: 270 ] أمورهم إلى الليل ، فلما تقوض المجلس قال له
nindex.php?page=showalam&ids=16626علي بن صالح ما جرى له ، وسأله مجازاة الأعرابي ، فأمر له بمائة ألف درهم ، فقال
علي : يا أمير المؤمنين ! إنه أعرابي ، ويغنيه عشرة آلاف . فقال : يا
علي أجود أنا ، وتبخل أنت ! .
وقيل : خرج يوما إلى عيادة أمه
الخيزران ، وكانت مريضة ، فقال له
عمر بن الربيع : يا أمير المؤمنين ! ألا أدلك على ما هو أنفع لك من هذا ؟ تنظر في المظالم . فرجع إلى دار المظالم ، وأذن للناس ، وأرسل إلى أمه يتعرف أخبارها .
وقيل : كان
عبد الله بن مالك يتولى شرطة
المهدي ، قال : فكان
المهدي يأمرني بضرب ندماء
الهادي ومغنيه ، وحبسهم صيانة له عنهم ، فكنت أفعل وكان
الهادي يرسل إلي بالتخفيف عنهم ، ولا أفعل ، فلما ولي
الهادي أيقنت بالتلف ، استحضرني يوما ، فدخلت إليه متحنطا متكفنا وهو على كرسي ، والسيف والنطع بين يديه ، فسلمت ، فقال : لا سلم الله عليك ! أتذكر يوم بعثت إليك في أمر
الحراني وضربه ، فلم تجبني ، وفي فلان وفلان ، فعدد ندماءه ، فلم تلتفت إلى قولي . قلت : نعم ! أفتأذن في ذكر الحجة ؟ قال : نعم . قلت : نشدتك الله أيسرك أنك وليتني ما ولاني
المهدي ، وأمرتني بما أمر ، فبعث إلي بعض بنيك بما يخالف أمرك ، فاتبعت أمره وخالفت أمرك ؟ قال : لا ! قلت : فكذلك أنا لك ، وكذا كنت لأبيك .
فاستدناني ، فقبلت يده ، ثم أمر لي بالخلع ، وقال : وليتك ما كنت تتولاه ، فامض راشدا ! فصرت إلى منزلي مفكرا في أمري وأمره ، وقلت : حدث يشرب ، والقوم الذي عصيته في أمرهم ندماؤه ، ووزراؤه ، وكتابه .
فكأني بهم حين يغلب عليه الشراب قد أزالوه عن رأيه . قال : فإني لجالس ، وعندي بينة لي ، والكانون بين يدي ، ورقاق أشطره بكامخ ، وأسخنه ، وأطعم الصبية ، وآكل ، وإذا بوقع الحوافر ، فظننت أن الدنيا قد زلزلت لوقعها ، ولكثرة الضوضاء ، فقلت : هذا ما كنت أخافه .
وإذا الباب قد فتح ، وإذا الخدم قد دخلوا ، وإذا
الهادي في وسطهم على دابته ، فلما رأيته وثبت ، فقبلت يده ورجله ، وحافر دابته ، فقال لي : يا
أبا عبد الله ! إني فكرت في أمرك ، فقلت يسبق إلى وهمك أنني إذا شربت وحولي أعداؤك ، أزالوا حسن رأيي فيك ، فيقلقك ذلك ، فصرت إلى منزلك لأونسك .
وأعلمك أن ما كان عندي لك من
[ ص: 271 ] الحقد قد زال ، فهات وأطعمني مما كنت تأكل لتعلم أني قد تحرمت بطعامك ، فيزول خوفك .
فأدنيت إليه من ذلك الرقاق والكامخ ، فأكل ، ثم قال : هاتوا الزلة التي أزللتها
لعبد الله من مجلسي ، فأدخلت إلي أربعمائة بغل موقرة دراهم وغيرها ، فقال : هذه لك ، فاستعن بها على أمرك ، واحفظ هذه البغال عندك لعلي أحتاج إليها لبعض أسفاري ، ثم انصرف .
قيل : وكان
يعقوب بن داود يقول : ما لعربي ولا لعجمي عندك ما
لعلي بن عيسى بن ماهان ، فإنه دخل إلي الحبس ، وقال لي : أمرني أمير المؤمنين
الهادي أن أضربك مائة سوط ، فأقبل يضع السوط على يدي ومنكبي يمسني به مسا إلى أن عد مائة سوط ، ثم خرج ، فقال له
الهادي : ما صنعت به ؟ قال : صنعت الذي أمرتني به ، وقد مات الرجل .
فقال
الهادي : إنا لله وإنا إليه راجعون ، فضحتني ، والله عند الناس ، يقولون : قتل
يعقوب بن داود ، فلما رأى شدة جزعه قال : هو والله حي يا أمير المؤمنين . قال : الحمد لله على ذلك .
وقيل : كان
إبراهيم بن سلم بن قتيبة من
الهادي بمنزلة عظيمة ، فمات له ولد ، فأتاه
الهادي يعزيه ، فقال له : يا
إبراهيم ! سرك وهو عدو وفتنة ، وحزنك وهو صلاة ورحمة ؟ . فقال : يا أمير المؤمنين ! ما بقي مني جزء فيه حزن ، إلا وقد امتلأ عزاء .
فلما مات
إبراهيم صارت منزلته
لسعيد بن سلم .
قيل : كان
علي بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الذي يلقب
الجزري ، قد تزوج
رقية بنت عمرو العثمانية ، وكانت قبله تحت
المهدي ، فبلغ ذلك
الهادي ، فأرسل إليه ، وحمل إليه ، وقال له : أعياك النساء إلا امرأة أمير المؤمنين ؟
قال : ما حرم الله على خلقه إلا نساء جدي - صلى الله عليه وسلم - فأما غيرهن فلا ، ولا كرامة ، فشجه بمخصرة كانت في يده ، وجلده خمسمائة سوط ، وأراده أن يطلقها ، فلم يفعل ، وكان قد غشي عليه من الضرب .
وكان في يده خاتم نفيس ، فأهوى بعض الخدم على الخاتم ليأخذه ، فقبض على يده فدقها ، فصاح ، فأتى
الهادي ، فأراه يده ، فغضب ، وقال : تفعل هذا بخادمي على استخفافك بأبي وقولك لي ما قلت ؟ قال : سله ، واستحلفه أن يصدقك ، ففعل . فأخبره الخادم وصدقه ، فقال : أحسن والله ، أشهد أنه ابن عمي ، ولو لم يفعل
[ ص: 272 ] ذلك لانتفيت منه ، وأمر بإطلاقه .
قيل : وكان
المهدي قد قال
للهادي يوما ، وقد قدم إليه زنديق ، فقتله وأمر بصلبه : يا بني ، إذا صار الأمر إليك فتجرد لهذه العصابة ، يعني أصحاب
ماني ، فإنها تدعو الناس إلى ظاهر حسن كاجتناب الفواحش ، والزهد في الدنيا ، والعمل للآخرة .
ثم تخرجها من هذا إلى تحريم اللحوم ، ومس الماء الطهور ، وترك قتل الهوام تحرجا ، ثم تخرجها إلى عبادة اثنين : أحدهما النور ، والآخر الظلمة ، ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات ، والاغتسال بالبول ، وسرقة الأطفال من الطرق ، لتنقذهم من ضلال الظلمة إلى هداية النور .
فارفع فيها الخشب ، ( وجرد السيف فيها ، وتقرب بأمرها إلى الله ، فإني رأيت جدي
العباس ، رضي الله عنه ) ، في المنام قلدني سيفين لقتل أصحاب الاثنين .
فلما ولي
الهادي قال : لأقتلن هذه الفرقة . وأمر أن يهيأ له ألف جذع فمات بعد هذا القول بشهرين .
قيل : وكان
عيسى بن دأب من أكثر أهل
الحجاز أدبا ، وأعذبهم ألفاظا ، وكان قد حظي عند
الهادي حظوة لم تكن لأحد قبله ، وكان يدعو له بما يتكئ عليه في مجلسه ، وما كان يفعل ذلك بغيره .
وكان يقول له : ما استطلت بك يوما ولا ليلا ، ولا غبت عن عيني إلا تمنيت أن لا أرى غيرك ، وأمر له بثلاثين ألف دينار في دفعة واحدة ، فلما أصبح
ابن دأب أرسل قهرمانة إلى الحاجب في قبضها ، فقال الحاجب : هذا ليس إلي ، فانطلق إلى صاحب التوقيع ، وإلى الديوان ، فعاد إلى
ابن دأب فأخبره ، فقال : اتركها .
فبينما
الهادي في مستشرف له
ببغداذ رأى
ابن دأب وليس معه إلا غلام واحد ، فقال
للحراني : ألا ترى
ابن دأب ما غير حاله ، وقد وصلناه ليرى أثرنا عليه ؟ فقال : إن أمرتني عرضت له بالحال . فقال : لا ، هو أعلم بحاله .
ودخل
ابن دأب ، وأخذ في حديثه ، فعرض
الهادي بشيء وقال : أرى ثوبك غسيلا ، وهذا شتاء يحتاج فيه إلى الجديد . فقال : باعي قصير فقال : وكيف ، وقد صرفنا إليك ما فيه صلاح شأنك ؟ فقال : ما وصل إلي شيء فدعا صاحب بيت مال الخاصة فقال : عجل الساعة ثلاثين ألف دينار
[ ص: 273 ] فأحضرت وحملت بين يديه .