ذكر
ابتداء الاختلاف بين الأمين والمأمون
وفي هذه السنة ابتدأ الاختلاف بين
الأمين والمأمون ابني
الرشيد .
وكان سبب ذلك أن
الرشيد لما سار نحو
خراسان ، وأخذ البيعة
للمأمون على جميع من في عسكره من القواد وغيرهم ، وأقر له بجميع ما معه من الأموال وغيرها ، على ما سبق ذكره - عظم على
الأمين ذلك ، ثم بلغه شدة مرض
الرشيد ، فأرسل
بكر بن المعتمر ، وكتب معه كتبا ، وجعلها في قوائم صناديق المطبخ ، وكانت منقورة ، وألبسها جلود البقر ، وقال : لا تظهرن أمير المؤمنين ولا غيره على ذلك ، ولو قتلت ، فإذا مات فادفع إلى كل إنسان منهم ما معك .
فلما قدم
بكر بن المعتمر طوس بلغ
هارون قدومه ، فدعا به ، وسأله عن سبب قدومه ، فقال : بعثني
الأمين لآتيه بخبرك . قال : فهل معك كتاب ؟ قال : لا . فأمر بما معه ففتش ، فلم يصيبوا شيئا ، فأمر به فضرب ، فلم يقر بشيء ، فحبسه وقيده ، ثم أمر
nindex.php?page=showalam&ids=14912الفضل بن الربيع بتقريره ، فإن أقر وإلا ضرب عنقه ، فقرره فلم يقر بشيء ، ثم غشي على
الرشيد ، فصاح النساء ، فأمسك
الفضل عن قتله ، وحضر عند
الرشيد ، فأفاق وهو ضعيف قد شغل عن
بكر وغيره ثم مات .
وكان
بكر قد كتب إلى
الفضل يسأله أن لا يعجل في أمره بشيء ، فإن عنده أشياء يحتاج إلى عملها ، فأحضره
الفضل ، وأعلمه بموت
الرشيد ، وسأله عما عنده ، فخاف أن
[ ص: 397 ] يكون
الرشيد حيا ، فلما تيقن موته أخرج الكتب التي معه ، وهي كتاب إلى أخيه
nindex.php?page=showalam&ids=15128المأمون يأمره بترك الجزع ، وأخذ البيعة على الناس لهما ولأخيهما
المؤتمن ، ولم يكن
nindex.php?page=showalam&ids=15128المأمون حاضرا ، كان
بمرو ، وكتاب إلى أخيه
صالح يأمره بتسيير العسكر واستصحاب ما فيه ، وأن يتصرف هو ومن معه برأي
الفضل ، وكتاب إلى
الفضل يأمره بالحفظ والاحتياط على ما معه من الحرم والأموال وغير ذلك ، وأقر كل من كان له عمل على عمله ، كصاحب الشرطة والحرس والحجابة .
فلما قرءوا الكتب تشاوروا هم والقواد في اللحاق
بالأمين ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=14912الفضل بن الربيع : لا أدع ملكا حاضرا لآخر ما أدري ما يكون من أمره . وأمر الناس بالرحيل ، فرحلوا محبة منهم لأهلهم ووطنهم ، وتركوا العهود التي كانت أخذت عليهم
للمأمون .
فلما بلغ
nindex.php?page=showalam&ids=15128المأمون ذلك جمع من عنده من قواد أبيه ، وهم :
عبد الله بن مالك ،
nindex.php?page=showalam&ids=17335ويحيى بن معاذ ،
وشبيب بن حميد بن قحطبة ،
والعلاء مولى هارون ، وهو على حجابته ،
والعباس بن المسيب بن زهير ، وهو على شرطته ،
وأيوب بن أبي سمير ، وهو على كتابته ،
وعبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح ،
وذو الرياستين ، وهو أعظمهم عنده قدرا ، وأخصهم به ، واستشارهم ، فأشاروا أن يلحقهم في ألفي فارس جريدة ، فيردهم ، فخلا به
ذو الرياستين وقال : إن فعلت ما أشار به هؤلاء جعلوك هدية إلى أخيك ، ولكن الرأي أن تكتب إليهم كتابا وتوجه رسولا يذكرهم البيعة ، ويسألهم الوفاء ، ويحذرهم الحنث وما فيه دنيا وآخرة .
ففعل ذلك ، ووجه
سهل بن صاعد ،
ونوفلا الخادم ، ومعهما كتاب ، فلحقا الجند
والفضل بنيسابور ، فأوصلا إلى
الفضل كتابه ، فقال : إنما أنا واحد من الجند . وشد
عبد الرحمن بن جبلة الأنباري على
سهل بالرمح ليطعنه ، فأمره على جنبه ، وقال له : قل لصاحبك : لو كنت حاضرا لوضعته في فيك . وسب
nindex.php?page=showalam&ids=15128المأمون .
فرجعا إليه بالخبر ، فقال
ذو الرياستين : أعداء استرحت منهم ، ولكن افهم عني ؛ إن هذه الدولة لم تكن قط أعز منها أيام
المنصور ، فخرج عليه
المقنع وهو يدعي الربوبية ، وقيل طلب بدم
أبي مسلم ، فضعضع العسكر بخروجه
بخراسان ، وخرج بعده
يوسف [ ص: 398 ] البرم ، وهو عند المسلمين كافر ، فتضعضعوا أيضا له ، فأخبرني أنت ، أيها الأمير ، كيف رأيت الناس عندما ورد عليهم خبر
رافع ؟ قال : رأيتهم اضطربوا اضطرابا شديدا . قال : فكيف بك وأنت نازل في أخوالك وبيعتك في أعناقهم ، كيف يكون اضطراب
أهل بغداذ ؟ اصبر ، وأنا أضمن لك الخلافة .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=15128المأمون : قد فعلت ، وجعلت الأمر إليك ، فقم به .
قال
ذو الرياستين : والله لأصدقنك ، إن
عبد الله بن مالك ومن معه من القواد إن قاموا لك بالأمر كانوا أنفع لك مني برياستهم المشهورة ، وبما عندهم من القوة على الحرب ، فمن قام بالأمر كنت خادما له ، حتى تبلغ أملك وترى رأيك .
وقام
ذو الرياستين وأتاهم في منازلهم ، وذكرهم ما يجب عليهم من الوفاء ، قال : فكأني جئتهم بجيفة على طبق . فقال بعضهم : هذا لا يحل ، اخرج ! وقال بعضهم : من الذي يدخل بين أمير المؤمنين وأخيه ؟ فجئت وأخبرته ، فقال : قم بالأمر ! قال : قلت له : قرأت القرآن ، وسمعت الأحاديث ، وتفقهت في الدين ، فأرى أن تبعث إلى من بحضرتك من الفقهاء ، فتدعوهم إلى الحق والعمل به وإحياء السنة ، وتقعد على الصوف ، وترد المظالم .
ففعل ذلك جميعه ، وأكرمه القواد والملوك وأبناء الملوك ، وكان يقول
للتميمي : نقيمك مقام
موسى بن كعب ،
وللربعي : نقيمك مقام
أبي داود ،
وخالد بن إبراهيم ولليماني : نقيمك مقام
قحطبة ،
ومالك بن الهيثم . وكل هؤلاء نقباء الدولة العباسية ، ووضع عن
خراسان ربع الخراج ، فحسن ذلك عند أهلها ، وقالوا : ابن أختنا ، وابن عم نبينا .
وأما
الأمين ، فلما سكن الناس
ببغداذ أمر ببناء ميدان حول قصر
المنصور بعد بيعته بيوم ، [ للصوالجة واللعب ] ، فقال شاعرهم :
بنى أمين الله ميدانا وصير الساحة بستانا وكانت الغزلان فيه بانا
يهدى إليه فيه غزلانا
[ ص: 399 ] وأقام
nindex.php?page=showalam&ids=15128المأمون يتولى ما كان بيده من
خراسان والري ، وأهدى إلى
الأمين ، وكتب إليه وعظمه .