صفحة جزء
ذكر بيعة المنتصر

قد ذكرنا قتل المتوكل ، ومن بايع المنتصر ( أبا جعفر محمد بن جعفر المتوكل ) تلك الليلة ، فلما أصبح يوم الأربعاء حضر الناس الجعفرية من القواد ، والكتاب ، والوجوه ، والشاكرية ، والجند ، وغيرهم ، فقرأ عليهم أحمد بن الخصيب كتابا يخبر فيه عن المنتصر أن الفتح بن خاقان قتل المتوكل ، فقتله به ، فبايع الناس ، وحضر عبيد الله بن يحيى بن خاقان ، فبايع وانصرف .

قيل : وذكر عن أبي عثمان سعيد الصغير أنه قال : لما كانت الليلة التي قتل فيها المتوكل ، كنا في الدار مع المنتصر ، فكان كلما خرج الفتح خرج معه ، وإذا رجع قام [ ص: 178 ] لقيامه ، وإذا ركب أخذ بركابه ، وسوى عليه ثيابه في سرجه .

وكان اتصل بنا الخبر أن عبيد الله بن يحيى قد أعد قوما في طريق المنتصر ، ليغتالوه عند انصرافه ، وكان المتوكل قد أسمعه ، وأحفظه ، ووثب عليه ، وانصرف غضبان ، وانصرفنا معه إلى داره ، وكان واعد الأتراك على قتل المتوكل إذا ثمل من النبيذ ، قال : فلم ألبث أن جاءني رسوله أن احضر ، فقد جاءت رسل أمير المؤمنين إلى الأمير ليركب . قال : فوقع في نفسي ما كنا سمعنا من اغتيال المنتصر ، فركبت في سلاح وعدة ، وجئت باب المنتصر ، فإذا هم يموجون ، وإذا واجن قد جاءه ، فأخبره أنهم قد فرغوا من المتوكل ، فركب ، فلحقته في بعض الطريق وأنا مرعوب ، فرأى ما بي ، فقال : ليس عليك بأس ، أمير المؤمنين قد شرق بقدح شربه فمات ، رحمه الله تعالى .

فشق علي ، ومضينا ومعنا أحمد بن الخصيب وجماعة من القواد حتى دخلنا القصر ، ووكل بالأبواب ، فقلت له : يا أمير المؤمنين ! لا ينبغي أن تفارقك مواليك في هذا الوقت ، قال : أجل ، وكن أنت خلف ظهري ، فأحطنا به ، وبايعه من حضر ، وكل من جاء يوقف ، ( حتى جاء سعيد الكبير ، فأرسله خلف المؤيد ، وقال لي : امض أنت إلى المعتز ) حتى يحضر ، فأرسلني ، فمضيت وأنا آيس من نفسي ، ومعي غلامان لي ، فلما صرت إلى باب المعتز لم أجد به أحدا من الحرس والبوابين ، فصرت إلى الباب الكبير ، فدققته دقا عنيفا ، فأجبت بعد مدة : من أنت ؟ فقلت : رسول أمير المؤمنين ( المنتصر ) ، فمضى الرسول ، وأبطأ ، وخفت ، وضاقت علي الأرض ، ثم فتح الباب ، وخرج ( بيدون ) الخادم ، وأغلق الباب ، ثم سألني عن الخبر ، فأخبرته أن المتوكل شرق بكأس شربه ، فمات من ساعته ، وأن الناس قد اجتمعوا ، وبايعوا المنتصر ، وقد أرسلني لأحضر الأمير المعتز ليبايع .

فدخل ، ثم خرج ، فأدخلني على المعتز ، فقال لي : ويلك ما الخبر ؟ فأخبرته ، وعزيته ، وبكيت ، وقلت : تحضر ، وتكون في أول من يبايع ، وتأخذ بقلب أخيك ، فقال : [ ص: 179 ] حتى يصبح ، فما زلت به أنا وبيدون حتى ركب ، وسرنا وأنا أحدثه ، فسألني عن عبيد الله بن يحيى ، فقلت : هو يأخذ البيعة على الناس ، والفتح قد بايع ، فأيس ، وأتينا باب الخير ، ففتح لنا ، وصرنا إلى المنتصر ، فلما رآه قربه ، وعانقه ، وعزاه ، وأخذ البيعة عليه .

ثم وافى سعيد الكبير بالمؤيد ، ففعل به مثل ذلك ، فأصبح الناس ، وأمر المنتصر بدفن المتوكل والفتح .

ولما أصبح الناس شاع الخبر في الماخوزة ، وهي المدينة التي كان بناها المتوكل ، وفي أهل سامرا ، بقتل المتوكل ، فتوافى الجند والشاكرية بباب العامة وبالجعفرية ، وغيرهم من الغوغاء والعامة ، وكثر الناس ، وتسامعوا ، وركب بعضهم بعضا ، وتكلموا في أمر البيعة ، فخرج إليهم عتاب بن عتاب ، وقيل : زرافة ، فوعدهم عن أمير المؤمنين المنتصر ، فاسمعوه ، فدخل عليه فأعلمه ، فخرج المنتصر وبين يديه جماعة من المغاربة ، فصاح بهم ، وقال : خذوهم ! فدفعوهم إلى الأبواب ، فازدحم الناس وركب بعضهم بعضا ، فتفرقوا وقد مات منهم ستة أنفس .

التالي السابق


الخدمات العلمية