1. الرئيسية
  2. الكامل في التاريخ
  3. ذكر ملك كسرى أنوشروان بن قباذ بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور بن يزدجرد الأثيم
صفحة جزء
ذكر ما فعله كسرى في أمر الخراج والجند

كان ملوك الفرس يأخذون من غلات كورهم قبل ملك كسرى الخمس والسدس ، على قدر شربها وعمارتها ، ومن الجزية شيئا معلوما ، فأمر الملك قباذ بمسح الأرضين ليصح الخراج عليها ، فمات قبل الفراغ من ذلك ، فلما ملك أنوشروان أمر باستتمام ذلك ، ووضع الخراج على الحنطة والشعير والكرم والرطب والنخل والزيتون والأرز ، على كل نوع من هذه الأنواع شيئا معلوما ، ويؤخذ في السنة في ثلاث أنجم ، وهي الوضائع التي اقتدى بها عمر بن الخطاب .

وكتب كسرى إلى القضاة في البلاد نسخة بالخراج ، ليمتنع العمال من الزيادة عليه ، وأمر أن يوضع عمن أصابت غلته جائحة بقدر جائحته ، وألزموا الناس الجزية ما خلا العظماء وأهل البيوتات والجند والهرابذة والكتاب ومن في خدمة الملك ، كل إنسان على قدرته من اثني عشر درهما ، وثمانية دراهم ، وستة دراهم ، وأربعة دراهم . وأسقطها عمر عمن لم يبلغ عشرين سنة أو جاوز خمسين سنة .

ثم إن كسرى ولى رجلا من الكتاب - من الكفاة والنبلاء اسمه بابك - عرض جيشه ، فطلب من كسرى التمكن من شغله إلى ذلك ، فتقدم ببناء مصطبة موضع عرض الجيش وفرشها ، ثم نادى أن يحضر الجند بسلاحهم وكراعهم للعرض ، فحضروا ، فحيث لم ير معهم كسرى أمرهم بالانصراف ، فعل ذلك يومين ، ثم أمر فنودي في اليوم الثالث أن لا يختلف أحد ولا من أكرم بتاج ، فسمع كسرى فحضر وقد لبس التاج والسلاح ، [ ص: 414 ] ثم أتى بابك ليعرض عليه ، فرأى سلاحه تاما ما عدا وترين للقوس كان عادتهم أن يستظهروا بهما ، فلم يرهما بابك معه فلم يجز على اسمه وقال له : هلم كل ما يلزمك . فذكر كسرى الوترين فتعلقهما ، ثم نادى منادي بابك وقال : للكمي السيد ، سيدة الكماة ، أربعة آلاف درهم ، وأجاز على اسمه . فلما قام عن مجلسه حضر عند كسرى يعتذر إليه من غلظته عليه ، وذكر له أن أمره لا يتم إلا بما فعل . فقال كسرى : ما غلظ علينا أمر نريد به إصلاح دولتنا .

ومن كلام كسرى : الشكر والنعمة كفتان ككفتي الميزان ، أيهما رجح بصاحبه احتاج الأخف ، إلا أن يزاد فيه حتى يعادل صاحبه ، فإذا كانت النعم كثيرة والشكر قليلا انقطع الحمد ، فكثير النعم يحتاج إلى كثير من الشكر ، وكلما زيد في الشكر ازدادت النعم وجاوزته ، ونظرت في الشكر فوجدت بعضه بالقول وبعضه بالفعل ، ونظرت أحب الأعمال إلى الله فوجدته الشيء الذي أقام به السماوات والأرض وأرسى به الجبال وأجرى به الأنهار وبرأ به البرية ، وهو الحق والعدل ، فلزمته .

ورأيت ثمرة الحق والعدل عمارة البلدان التي بها قوام الحياة للناس والدواب والطير وجميع الحيوانات . ولما نظرت في ذلك وجدت المقاتلة أجراء لأهل العمارة ، وأهل العمارة أجراء للمقاتلة ، فأما المقاتلة فإنهم يطلبون أجورهم من أهل الخراج وسكان البلدان لمدافعتهم عنهم ومجاهدتهم من ورائهم ، فحق على أهل العمارة أن يوفوهم أجورهم ، فإن العمارة والأمن والسلامة في النفس والمال لا يتم إلا بهم .

ورأيت المقاتلة لا يتم لهم المقام والأكل والشرب وتثمير الأموال والأولاد إلا بأهل الخراج والعمارة ، فأخذت للمقاتلة من أهل الخراج ما يقوم بأودهم وتركت على أهل الخراج من مستغلاتهم ما يقوم بمؤونتهم وعمارتهم ولم أجحف بواحد من الجانبين ، ورأيت المقاتلة وأهل الخراج كالعينين المبصرتين واليدين المتساعدتين [ ص: 415 ] والرجلين على أيهما دخل الضرر تعدى إلى الأخرى .

ونظرنا في سير آبائنا فلم نترك منها شيئا يقترن بالثواب من الله والذكر الجميل بين الناس والمصلحة الشاملة للجند والرعية إلا اعتمدناه ، ولا فسادا إلا أعرضنا عنه ، ولم يدعنا إلى حب ما لا خير فيه حب الآباء .

ونظرت في سير أهل الهند والروم وأخذنا محمودها ، ولم تنازعنا أنفسنا إلى ما تميل إليه أهواؤنا ، وكتبنا بذلك إلى جميع أصحابنا ونوابنا في سائر البلدان .

فانظر إلى هذا الكلام الذي يدل على زيادة العلم وتوفر العقل والقدرة على منع النفس ، ومن كان هذا حاله استحق أن يضرب به المثل في العدل إلى أن تقوم الساعة .

وكان لكسرى أولاد متأدبون ، فجعل الملك من بعده لابنه هرمز .

وكان مولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفيل ، وذلك لمضي اثنتين وأربعين سنة من ملكه ، وفي هذا العام كان يوم ذي جبلة ، وهو يوم من أيام العرب المذكورة .

التالي السابق


الخدمات العلمية