ذكر
انتقال صاحب الزنج إلى الجانب الشرقي وإحراق سوقه
لما أحرقت دوره ، ومساكن أصحابه ، ونهبت أموالهم ، انتقلوا إلى الجانب الشرقي من
نهر أبي الخصيب ، وجمع عياله حوله ، ونقل أسواقه إليه ، فضعف أمره بذلك ضعفا شديدا ظهر للناس ، فامتنعوا من جلب الميرة إليه ، فانقطعت عنه كل مادة ، وبلغ الرطل من خبز البر عشرة دراهم ، فأكلوا الشعير ، وأصناف الحبوب .
ثم لم يزل الأمر بهم إلى أن كان أحدهم يأكل صاحبه إذا انفرد به ، والقوي يأكل الضعيف ، ثم أكلوا أولادهم .
ورأى
الموفق أن يخرب الجانب الشرقي كما أخرب الغربي ، فأمر أصحابه بقصد
[ ص: 408 ] دار
الهمداني ، ومعهم الفعلة ، وكان هذا الموضع محصنا بجمع كثير ، وعليه عرادات ، ومنجنيقات ، وقسي ، فاشتبكت الحرب ، وكثرت القتلى ، فانتصر أصحاب
الموفق عليهم ، وقتلوهم وهزموهم ، وانتهوا إلى الدار ، فتعذر عليهم الصعود إليها لعلو سورها ، فلم تبلغه السلاليم الطوال ، فرمى بعض غلمان
الموفق بكلاليب كانت معهم ، فعلقوها في أعلام
الخبيث ، وجذبوها ، فتساقطت الأعلام منكوسة ، فلم يشك المقاتلة عن الدار في أن أصحاب
الموفق قد ملكوها ، فانهزموا لا يلوي أحد منهم على صاحبه ، فأخذها أصحاب
الموفق ، وصعد النفاطون وأحرقوها وما كان عليها من المجانيق ، والعرادات ، ونهبوا ما كان فيها من المتاع ، والأثاث ، وأحرقوا ما كان حولها من الدور ، واستنقذوا ما كان فيها من النساء ، وكن عالما كثيرا من المسلمات ، فحملن إلى
الموفقية ، وأمر
الموفق بالإحسان إليهن .
واستأمن يومئذ من أصحاب
الخبيث ، وخاصته الذين يلون خدمته جماعة كثيرة ، فأمنهم
الموفق ، وأحسن إليهم ، ودلت جماعة من المستأمنة
الموفق على سوق عظيمة كانت
للخبيث متصلة بالجسر الأول ، تسمى المباركة ، وأعلموه إن أحرقها لم يبق سوق غيرها ، وخرج عنهم تجارهم الذين كان بهم قوامهم ، فعزم
الموفق على إحراقها ، وأمر أصحابه بقصد السوق من جانبيها ، فقصدوها ، وأقبلت
الزنج إليهم ، فتحاربوا أشد حرب تكون ، واتصلت أصحاب
الموفق إلى طرف من أطراف السوق وألقوا فيه النار فاحترق واتصلت النار .
وكان الناس يقتتلون ، والنار محيطة بهم ، ( واتصلت النار بظلال السوق فاحترقت ) وسقطت على المقاتلة ، واحترق بعضهم ، فكانت هذه حالهم إلى مغيب الشمس ، ثم تحاجزوا ، ورجع أصحاب
الموفق إلى عسكرهم ، وانتقل تجار السوق إلى أعلى المدينة ، وكانوا قد نقلوا معظم أمتعتهم وأموالهم من هذه السوق خوفا من مثل هذه .
ثم إن
الخبيث فعل بالجانب الشرقي من حفر الخنادق ، وتغوير الطرق مثل ما فعل بالجانب الغربي ، بعد هذه الوقعة ، واحتفر خندقا عريضا حصن به منازل أصحابه التي على النهر الغربي ، فرأى
الموفق أن يخرب باقي السور إلى النهر الغربي ، ففعل ذلك
[ ص: 409 ] بعد حرب طويلة في مدة بعيدة .
وكان
للخبيث في الجانب الغربي جمع من
الزنج قد تحصنوا بالسور وهو منيع ، وهم أشجع أصحابه ، فكانوا يحامون عنه ، وكانوا يخرجون على أصحاب
الموفق ، عند محاربتهم ، على حرى كور وما يليه ، وأمر
الموفق أن يقصد هذا الموضع ، ويخرب سوره ، ويخرج من فيه ، فأمر
أبا العباس ، والقواد بالتأهب لذلك ، وتقدم إليهم ، وأمر بالشذا أن تقرب من السور ، ونشبت الحرب ، ودامت إلى بعد الظهر ، وهدم مواضع ، وأحرق ما كان عليها من العرادات ، وتحاجز الفريقان ، وهما على السواء ، سوى هدم السور ، وإحراق عرادات كانت عليه ، فنال الفريقين من الجراح أمر عظيم .
وعاد
الموفق ، فوصل أهل البلاء والمجروحين على قدر بلائهم ، وهكذا كان عمله في محاربته ، وأقام
الموفق بعد هذه الوقعة أياما ، ثم رأى معاودة هذا الموضع لما رأى من حصانته وشجاعة من فيه ، وأنه لا يقدر على ما بينه وبين حرى كور إلا بعد إزالة هؤلاء ، فأعد الآلات ، ورتب أصحابه ، وقصده ، وقاتل من فيه ، وأدخلت الشذوات النهر ، واشتدت الحرب ودامت .
وأمد
الخبيث أصحابه
بالمهلبي ،
وسليمان بن جامع في جيشهما ، فحملوا على أصحاب
الموفق حتى ألحقوهم بسفنهم ، وقتلوا منهم جماعة ، فرجع
الموفق ولم يبلغ منهم ما أراد ، وتبين له أنه كان ينبغي أن يقاتلهم من عدة وجوه لتخف وطأتهم على من يقصد هذا الموضع ، ففعل ذلك ، وفرق أصحابه على جهات أصحاب
الخبيث ، وسار هو إلى جهة النهر الغربي ، وقاتل من فيه .
وطمع
الزنج بما تقدم من تلك الوقعة ، فصدقهم أصحاب
الموفق القتال ، فهزموهم ، فولوا منهزمين ، وتركوا حصنهم في أيدي أصحاب
الموفق ، فهدموه ، وغنموا ما فيه ، وأسروا ، وقتلوا خلقا لا يحصى ، وخلصوا من هذا الحصن خلقا كثيرا من النساء ، والصبيان ، ورجع
الموفق إلى عسكره بما أراد .