ذكر
استيلاء الموفق على مدينة الخبيث الشرقية
لما علم
الموفق أن أصحابه قد تمرنوا على سلوك تلك الأرض وعرفوها ، صمم العزم على العبور إلى محاربة
الخبيث من الجانب الشرقي من
نهر أبي الخصيب ، فجلس مجلسا عاما ، وأحضر قواد المستأمنة ، وفرسانهم ، فوقفوا بحيث يسمعون كلامه ، ثم كلمهم فعرفهم ما كانوا عليه من الضلالة ، والجهل ، وانتهاك المحارم ، ومعصية الله - عز وجل - وأن ذلك قد أحل له دماءهم ، وأنه غفر لهم زلتهم ، ووصلهم ، وأن ذلك يوجب عليهم حقه ، وطاعته ، وأنهم لن يرضوا ربهم ، وسلطانهم بأكثر من الجد في مجاهدة
الخبيث ، وأنهم ليعرفون مسالك العسكر ، ومضايق مدينته ، ومعاقلها التي أعدها ، فهم أولى أن يجتهدوا في الولوج على
الخبيث ، والوغول إلى حصونه ، حتى يمكنهم الله منه ، فإذا فعلوا ذلك فلهم الإحسان ، والمزيد ، ومن قصر منهم فقد أسقط منزلته وحاله .
فارتفعت أصواتهم بالدعاء له ، والاعتراف بإحسانه ، وبما هم عليه من المناصحة ، والطاعة ، وأنهم يبذلون دماءهم في كل ما يقربهم منه ، وسألوه أن يفردهم بناحية ليظهر من نكايتهم في العدو ما يعرف به إخلاصهم ، وطاعتهم ، فأجابهم إلى ذلك ، وأثنى عليهم ، ووعدهم ، وكتب في جمع السفن ، والمعابر من
دجلة ،
والبطيحة ونواحيها ليضيفها إلى ما في عسكره ، إذ كان ما عنده يقصر عن الجيش لكثرته ، وأحصى ما في الشذا ، والسميريات ، وأنواع السفن ، فكانوا زهاء عشرة آلاف ملاح ممن يجري عليه الرزق من بيت المال مشاهرة ، سوى سفن أهل العسكر التي يحمل فيها الميرة ، ويركبها الناس في حوائجهم ، وسوى ما كان لكل قائد من السميريات ، والحربيات ، والزواريق .
فلما تكاملت السفن تقدم إلى ابنه
أبي العباس ، وقواده بقصد مدينة
الخبيث الشرقية
[ ص: 414 ] من جهاتها ، ( فسير ابنه
أبا العباس إلى ) ناحية دار
المهلبي أسفل العسكر ، وكان قد شحنها بالرجال ، والمقاتلين ، وأمر جميع أصحابه بقصد دار
الخبيث ، وإحراقها ، فإن عجزوا عنها اجتمعوا على دار
المهلبي ، وسار هو في الشذا ، وهي مائة وخمسون قطعة ، فيها أنجاد غلمانه ، وانتخب من الفرسان والرجالة عشرة آلاف ، وأمرهم أن يسيروا على جانبي النهر معه إذا سار ، وأن يقفوا معه إذا وقف ، ليتصرفوا بأمره .
وبكر
الموفق لقتال الفاسقين يوم الثلاثاء لثمان خلون من ذي القعدة سنة تسع وستين ومائتين ، وكانوا قد تقدموا إليهم يوم الاثنين وواقعوهم ، وتقدم كل طائفة إلى الجهة التي أمرهم بها ، فلقيهم
الزنج ، واشتدت الحرب ، وكثر القتل والجراح في الفريقين ، وحامى الفسقة عن الذي اقتصروا عليه من مدينتهم ، واستماتوا ، وصبروا ، فنصر الله أصحاب
الموفق ، فانهزم
الزنج ، وقتل منهم خلق كثير ، وأسر من أنجادهم وشجعانهم جمع كثير ، فأمر
الموفق فضربت أعناق الأسرى في المعركة ، وقصد بجمعه الدار التي يسكنها
الخبيث ، وكان قد لجأ إليها ، وجمع أبطال أصحابه للمدافعة عنها ، فلم يغنوا عنها شيئا ، وانهزموا عنها وأسلموها ، ودخلها أصحاب
الموفق وفيها بقايا ما كان سلم
للخبيث من ماله ، وولده ، وأثاثه ، فنهبوا ذلك أجمع ، وأخذوا حرمه ، وأولاده ، وكانوا عشرين ما بين صبية ، وصبي ، وسار
الخبيث هاربا نحو دار
المهلبي لا يلوي على أهل ، ولا مال ، وأحرقت داره ، وأتي
الموفق بأهل
الخبيث وأولاده ، فسيرهم إلى
بغداذ .
وكان أصحاب
أبي العباس قد قصدوا دار
المهلبي ، وقد لجأ إليها خلق كثير من المنهزمين ، فغلبوهم عليها ، واشتغلوا بنهبها ، وأخذوا ما فيها من حرم المسلمين ، وأولادهم ، وجعل من ظفر منهم بشيء حمله إلى سفينته ، فعلوا في الدار ونواحيها ، فلما رآهم
الزنج كذلك رجعوا إليهم فقتلوا فيهم مقتلة يسيرة .
وكان جماعة من غلمان
الموفق الذين قصدوا دار
الخبيث تشاغلوا بحمل الغنائم إلى السفن أيضا ، فأطمع ذلك
الزنج فيهم ، فأكبوا عليهم فكشفوهم ، واتبعوا آثارهم ، وثبت جماعة من أبطال
الموفق ، فردوا
الزنج حتى تراجع الناس إلى مواقفهم ، ودامت الحرب إلى العصر ، فأمر
الموفق غلمانه بصدق الحملة عليهم ، ففعلوا ، فانهزم
الخبيث وأصحابه ، وأخذتهم السيوف حتى انتهوا إلى داره أيضا ، فرأى
الموفق عند ذلك أن
[ ص: 415 ] يصرف أصحابه إلى إحسانهم ، فردهم وقد غنموا ، واستنقذوا جمعا من النساء المأسورات كن يخرجن ذلك اليوم أرسالا فيحملن إلى
الموفقية .
وكان
أبو العباس قد أرسل في ذلك اليوم قائدا ، فأحرق ثم بيادر كانت ذخيرة
للخبيث ، وكان ذلك مما أضعف به
الخبيث وأصحابه .
ثم وصل إلى
الموفق كتاب
لؤلؤ غلام ابن طولون في القدوم عليه ، فأمره بذلك ، وأخر القتال إلى أن يحضر .