صفحة جزء
ذكر قتل ابن الفرات وولده المحسن

وكان المحسن ابن الوزير ابن الفرات مختفيا ، كما ذكرنا ، وكان عند حماته حزانة ، وهي والدة الفضل بن جعفر بن الفرات ، وكانت تأخذه في كل يوم إلى المقبرة ، وتعود به إلى المنازل التي يثق بأهلها عشاء وهو في زي امرأة ، فمضت يوما إلى مقابر قريش ، وأدركها الليل ، فبعد عليها الطريق ، فأشارت عليها امرأة معها أن تقصد امرأة صالحة تعرفها بالخير ، تختفي عندها ، فأخذت المحسن وقصدت تلك المرأة وقالت [ ص: 694 ] لها : معنا صبية بكر نريد بيتا نكون فيه فأمرتهم بالدخول إلى دارها ، وسلمت إليهم قبة في الدار ، فأدخلن المحسن إليها ، وجلست النساء اللاتي معه في صفة بين يدي باب القبة ، فجاءت جارية سوداء ، فرأت المحسن في القبة ، فعادت إلى مولاتها ، فأخبرتها أن في الدار رجلا ، فجاءت صاحبتها فلما رأته عرفته .

وكان المحسن قد أخذ زوجها ليصادره ، فلما رأى الناس في داره يجلدون ، ويشقصون ، ويعذبون مات فجأة ، فلما رأت المرأة المحسن وعرفته ركبت في سفينة ، وقصدت دار الخلافة ، وصاحت : معي نصيحة لأمير المؤمنين ! فأحضرها نصر الحاجب ، فأخبرته بخبر المحسن ، فانتهى ذلك إلى المقتدر ، فأمر نازوك ، صاحب الشرطة ، أن يسير معها ويحضره ، فأخذها معه ( إلى منزلها ) ، ودخل المنزل ، وأخذ المحسن وعاد به إلى المقتدر ، فرده إلى دار الوزير ، فعذب بأنواع العذاب ليجيب إلى مصادرة يبذلها ، فلم يجبهم إلى دينار واحد ، وقال : لا أجمع لكم بين نفسي ومالي ، واشتد العذاب عليه بحيث امتنع عن الطعام .

فلما علم ذلك المقتدر أمر بحمله مع أبيه إلى دار الخلافة ، فقال الوزير أبو القاسم لمؤنس ، وهارون بن غريب الخال ، ونصر الحاجب : إن ينقل ابن الفرات إلى دار الخلافة بذل أمواله ، وأطمع المقتدر في أموالنا ، وضمننا منه ، وتسلمنا فأهلكنا ، فوضعوا القواد والجند ، حتى قالوا للخليفة : إنه لا بد من قتل ابن الفرات وولده ، فإننا لا نأمن على أنفسنا ما داما في الحياة .

وترددت الرسائل في ذلك ، وأشار مؤنس ، وهارون بن غريب ، ونصر الحاجب [ ص: 695 ] بموافقتهم وإجابتهم إلى ما طلبوا ، فأمر نازوك بقتلهما ، فذبحهما كما يذبح الغنم .

وكان ابن الفرات قد أصبح يوم الأحد صائما ، فأتي بطعام فلم يأكله ، فأتي أيضا بطعام ليفطر عليه ، فلم يفطر ، وقال : رأيت أخي العباس في النوم يقول لي : أنت وولدك عندنا يوم الإثنين ، ولا شك أننا نقتل ، فقتل ابنه المحسن يوم الإثنين لثلاث عشرة خلت من ربيع الآخر ، وحمل رأسه إلى أبيه ، فارتاع لذلك شديدا ، ثم عرض أبوه على السيف فقال : ليس إلا السيف ، راجعوا في أمري ، فإن عندي أموالا جمة ، وجواهر كثيرة ، فقيل له : جل الأمر عن ذلك ! وقتل وكان عمره إحدى وسبعين سنة ، وعمر ولده المحسن ثلاثا وثلاثين سنة ، فلما قتلا حمل رأساهما إلى المقتدر بالله ، فأمر بتغريقهما .

وقد كان أبو الحسن بن الفرات يقول : إن المقتدر بالله يقتلني ، فصح قوله ، فمن ذلك أنه عاد من عنده يوما ، وهو مفكر كثير الهم ، فقيل له في ذلك ، فقال : كنت عند أمير المؤمنين فما خاطبته في شيء من الأشياء إلا قال لي نعم ، فقلت له الشيء وضده ، ففي كل ذلك يقول نعم ، فقيل له : هذا لحسن ظنه بك ، وثقته بما تقول ، واعتماده على شفقتك ، فقال : لا والله ، ولكنه أذن لكل قائل ، وما يؤمني أن يقال له بقتل الوزير ، فيقول نعم والله إنه قاتلي !

ولما قتل ركب هارون بن غريب مسرعا إلى الوزير الخاقاني ، وهنأه بقتله ، فأغمي عليه ، حتى ظن هارون ومن هناك أنه قد مات ، وصرخ أهله وأصحابه عليه ، فلما أفاق من غشيته لم يفارقه هارون حتى أخذ منه ألفي دينار .

وأما أولاده ( سوى المحسن ) فإن مؤنسا المظفر شفع في ابنيه عبد الله وأبي [ ص: 696 ] نصر ، فأطلقا له فخلع عليهما ، ووصلهما بعشرين ألف دينار ، وصودر ابنه الحسن على عشرين ألف دينار ، وأطلق إلى منزله .

وكان الوزير أبو الحسن بن الفرات كريما ، ذا رئاسة وكفاية في عمله حسن السؤال والجواب ، ولم يكن له سيئة إلا ولده المحسن .

ومن محاسنه أنه جرى ذكر أصحاب الأدب ، وطلبة الحديث ، وما هم عليه من الفقر والتعفف ، فقال : أنا أحق من أعانهم ، وأطلق لأصحاب الحديث عشرين ألف درهم ، وللشعراء عشرين ألف درهم ، ولأصحاب الأدب عشرين ألف درهم ، وللفقهاء عشرين ألف درهم ، وللصوفية عشرين ألف درهم ، فذلك مائة ألف درهم .

وكان إذا ولي الوزارة ارتفعت أسعار الثلج ، والشمع ، والسكر ، والقراطيس ، لكثرة ما كان يستعملها ويخرج من داره للناس ، ولم يكن فيه ما يعاب به إلا أن أصحابه كانوا يفعلون ما يريدون ، ويظلمون ، فلا يمنعهم ، فمن ذلك أن بعضهم ظلم امرأة في ملك لها ، فكتبت إليه تشكو منه غير مرة ، وهو لا يرد لها جوابا ، فلقيته يوما ، وقالت له : أسألك بالله أن تسمع ( مني كلمة ) فوقف لها فقالت : قد كتبت إليك في ظلامتي غير مرة ، ولم تجبني ، وقد تركتك وكتبتها إلى الله تعالى ، فلما ( كان بعد أيام ) ، ورأى تغير حاله ، قال لمن معه من أصحابه : ( ما أظن ) إلا جواب رقعة [ ص: 697 ] تلك المرأة المظلومة ( قد خرج ) ، فكان كما قال .

التالي السابق


الخدمات العلمية