ذكر
عود المقتدر إلى الخلافة
لما كان يوم الإثنين سابع عشر من المحرم بكر الناس إلى دار الخليفة لأنه يوم موكب دولة جديدة ، فامتلأت الممرات ، والمراحات ، والرحاب ، وشاطئ
دجلة من الناس ، وحضر الرجالة المصافية في السلاح الشاكي ، يطالبون بحق البيعة ، ورزق سنة ، وهم حنقون بما فعل بهم
نازوك ، ولم يحضر
nindex.php?page=showalam&ids=16864مؤنس المظفر ذلك اليوم .
وارتفعت زعقات الرجالة ، فسمع بها
نازوك ، فأشفق أن يجري بينهم وبين أصحابه فتنة وقتال ، فتقدم إلى أصحابه ، وأمرهم أن لا يعرضوا لهم ، ولا يقاتلوهم
[ ص: 739 ] وزاد شغب الرجالة ، وهجموا يريدون الصحن التسعيني ، فلم يمنعهم أصحاب
نازوك ، ودخل من كان على الشط بالسلاح ، وقربت زعقاتهم من مجلس
القاهر بالله ، وعنده
أبو علي بن مقلة الوزير ،
ونازوك ،
وأبو الهيجاء بن حمدان ، فقال القاهر
لنازوك : اخرج إليهم فسكنهم ، وطيب قلوبهم ! فخرج إليهم
نازوك وهو مخمور ، قد شرب طول ليلته ، فلما رآه الرجالة تقدموا إليه ليشكوا حالهم إليه في معنى أرزاقهم ، فلما رآهم بأيديهم السيوف يقصدونه خافهم على نفسه فهرب ، فطمعوا فيه ، فتبعوه ، فانتهى به الهرب إلى باب كان هو سده أمس ، فأدركوه عنده ، فقتلوه عند ذلك الباب ، وقتلوا قبله خادمه
عجيبا ، وصاحوا : يا
مقتدر ، يا
منصور ! فهرب كل من كان في الدار من الوزير ، والحجاب ، وسائر الطبقات وبقيت الدار فارغة ، وصلبوا
نازوك وعجيبا بحيث يراهما من على شاطئ
دجلة .
ثم صار الرجالة إلى دار
مؤنس يصيحون ، ويطالبونه
بالمقتدر ، وبادر الخدم فأغلقوا أبواب دار الخليفة ، وكانوا جميعهم خدم
المقتدر ، ومماليكه ، وصنائعه ، وأراد أبو
الهيجاء بن حمدان أن يخرج من الدار ، فتعلق به
القاهر ، وقال : أنا في ذمامك ، فقال : والله لا أسلمك أبدا ، وأخذ بيد
القاهر ، وقال : قم بنا نخرج جميعا ، وأدعو أصحابي وعشيرتي فيقاتلون معك ودونك .
فقاما ليخرجا ، فوجدا الأبواب مغلقة ، فتبعهما
فائق وجه القصعة يمشي معهما ، فأشرف
القاهر من سطح ، فرأى كثرة الجمع ، فنزل هو
وابن حمدان وفائق ، فقال
ابن حمدان للقاهر : قف حتى أعود إليك ، ونزع سواده وثيابه ، وأخذ جبة صوف لغلام هناك ، فلبسها ومشى نحو باب النوبى ، فرآه مغلقا والناس من ورائه ، فعاد إلى
القاهر ، وتأخر عنهما
وجه القصعة ومن معه من الخدم ، فأمرهم وجه القصعة بقتلهما أخذا بثأر
المقتدر وما صنعا به ، فعاد إليهما عشرة من الخدم بالسلاح ، فعاد إليهم
أبو الهيجاء [ ص: 740 ] وسيفه بيده ، ونزع الجبة الصوف ، وأخذها بيده الأخرى ، وحمل عليهم ، فانجفلوا بين يديه ، وغشيهم ، فرموه بالنشاب ضرورة ، فعاد عنهم ، وانفرد عنه
القاهر ومشى إلى آخر البستان فاختفى منه .
ودخل
أبو الهيجاء إلى بيت من ساج ، وتقدم الخدم إلى ذلك البيت ، فخرج إليهم
أبو الهيجاء ، فولوا هاربين ، ودخل إليهم بعض أكابر الغلمان الحجرية ، ومعه أسودان بسلاح ، فقصدوا
أبا الهيجاء ، فخرج إليهم فرمي بالسهام فسقط ، فقصده بعضهم فضربه بالسيف فقطع يده اليمنى ، وأخذ رأسه فحمله بعضهم ، ومشى وهو معه .
وأما الرجالة فإنهم لما انتهوا إلى دار
مؤنس وسمع زعقاتهم قال : ما الذي تريدون ؟ فقيل له : نريد
المقتدر ، فأمر بتسليمه إليهم ، فلما قيل
للمقتدر ليخرج خاف على نفسه أن تكون حيلة عليه ، فامتنع ، وحمل وأخرج إليهم ، فحمله الرجالة على رقابهم حتى أدخلوه دار الخلافة ، فلما حصل في الصحن التسعيني اطمأن وقعد ، فسأل عن أخيه
القاهر ، وعن
ابن حمدان ، فقيل : هما حيان ، فكتب لهما أمانا بخطه ، وأمر خادما بالسرعة بكتاب الأمان لئلا يحدث على
أبي الهيجاء حادث ، فمضى بالخط إليه ، ( فلقيه الخادم ) الآخر ومعه رأس ، فعاد معه ، فلما رآه
المقتدر ، وأخبره بقتله ، قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ! من قتله ؟ فقال الخادم : ما نعرف قاتله ، وعظم عليه قتله ، وقال : ما كان يدخل علي ويسليني ، ويذهب عني الغم هذه الأيام غيره .
ثم أخذ
القاهر وأحضر عند
المقتدر ، فاستدناه ، فأجلسه عنده وقبل جبينه وقال له : يا أخي قد علمت أنه لا ذنب لك ، وأنك قهرت ، ولو لقبوك بالمقهور لكان أولى من
القاهر ،
والقاهر يبكي ويقول : يا أمير المؤمنين ! نفسي ، نفسي ، اذكر الرحم التي بيني وبينك ! فقال له
المقتدر : وحق رسول الله لا جرى عليك سوء مني أبدا ، ولا وصل أحد
[ ص: 741 ] إلى مكروهك وأنا حي ! فسكن وأخرج رأس
نازوك ، ورأس
أبي الهيجاء ،
وشهرا ، ونودي عليهما : هذا جزاء من عصى مولاه .
وأما
بني بن نفيس فإنه كان من أشد القوم على
المقتدر ، فأتاه الخبر برجوعه إلى الخلافة ، فركب جوادا وهرب عن
بغداذ ، ( وغير زيه ) ، وسار حتى بلغ
الموصل ، وسار منها إلى
أرمينية ، وسار حتى دخل
القسطنطينية وتنصر .
وهرب
أبو السرايا نصر بن حمدان أخو
أبي الهيجاء إلى
الموصل ، وسكنت الفتنة ، وأحضر
المقتدر أبا علي بن مقلة ، وأعاده إلى وزارته ، وكتب إلى البلاد بما تجدد له ، وأطلق للجند أرزاقهم وزادهم ، وباع ما في الخزائن من الأمتعة والجواهر ، وأذن في بيع الأملاك من الناس ، فبيع ذلك بأرخص الأثمان ، ليتم أعطيات الجند .
وقد قيل إن
nindex.php?page=showalam&ids=16864مؤنسا المظفر لم يكن مؤثرا لما جرى على
المقتدر من الخلع ، وإنما وافق الجماعة مغلوبا على رأيه ، ولعلمه أنه إن خالفهم لم ينتفع به
المقتدر ، ووافقهم ليؤمنوه ، وسعى مع الغلمان المصافية والحجرية ، ووضع قوادهم على أن عملوا ما عملوا ، وأعادوا
المقتدر إلى الخلافة ، وكان هو قد قال
للمقتدر ، ( لما كان ) في داره : ما تريدون أن نصنع ؟ فلهذا أمنه
المقتدر ، ولما حملوه إلى دار الخلافة من دار
مؤنس ورأى فيها كثرة الخلق والاختلاف عاد إلى دار
مؤنس لثقته به ، واعتماده عليه ، ولولا هوى
مؤنس مع
المقتدر لكان حضر عند
القاهر مع الجماعة ، فإنه لم يكن معهم كما ذكرناه ، ولكان أيضا قتل
المقتدر لما طلب من داره ليعاد إلى الخلافة .
وأما
القاهر فإن
المقتدر حبسه عند والدته ، فأحسنت إليه ، وأكرمته ، ووسعت عليه النفقة ، واشترت له السراري والجواري للخدمة ، وبالغت في إكرامه والإحسان إليه ( بكل طريق ) .