ذكر
ملك المنصور مدينة القيروان وانهزام أبي يزيد
لما بلغ
المنصور الخبر ، سار إلى مدينة
سوسة لسبع بقين من شوال من السنة ، فنزل خارجا منها ، وسر بما فعله أهل
القيروان ، فكتب إليهم كتابا يؤمنهم فيه ; لأنه كان واجدا عليهم لطاعتهم
أبا يزيد ، وأرسل من ينادي في الناس بالأمان ، وطابت نفوسهم ، ورحل إليهم ، فوصلها يوم الخميس لست بقين من شوال ، وخرج إليه أهلها ، فأمنهم ووعدهم خيرا .
ووجد في
القيروان من حرم
أبي يزيد وأولاده جماعة ، فحملهم إلى
المهدية وأجرى عليهم الأرزاق .
ثم إن
أبا يزيد جمع عساكره ، وأرسل سرية ( إلى
القيروان ) يتخبرون له ، فاتصل
[ ص: 147 ] خبرهم
بالمنصور ، فسير إليهم سرية ، فالتقوا واقتتلوا ، وكان أصحاب
أبي يزيد قد جعلوا كمينا ، فانهزموا ، وتبعهم أصحاب
المنصور ، فخرج الكمين عليهم ، فأكثر فيهم القتل والجراح .
فلما سمع الناس ذلك ، سارعوا إلى
أبي يزيد ، فكثر جمعه ، فعاد ونازل
القيروان ، وكان
المنصور قد جعل خندقا في عسكره ، ففرق
أبو يزيد عسكره ثلاث فرق ، وقصد هو بشجعان أصحابه إلى خندق
المنصور ، فاقتتلوا ، وعظم الأمر ، وكان الظفر
للمنصور ، ثم عاودوا القتال ، فباشر
المنصور القتال بنفسه ، وجعل يحمل يمينا وشمالا ، والمظلة على رأسه كالعلم ، ومعه خمسمائة فارس ،
وأبو يزيد في مقدار ثلاثين ألفا ، فانهزم أصحاب
المنصور هزيمة عظيمة حتى دخلوا الخندق ونهبوا ، وبقي
المنصور في نحو عشرين فارسا .
وأقبل
أبو يزيد قاصدا إلى
المنصور ، فلما رآهم شهر سيفه وثبت مكانه ، وحمل بنفسه على
أبي يزيد حتى كاد يقتله ، فولى
أبو يزيد هاربا ، وقتل
المنصور من أدرك منهم ، وأرسل من يرد عسكره فعادوا ، وكانوا قد سلكوا طريق
المهدية وسوسة ، وتمادى القتال إلى الظهر فقتل منهم خلق كثير ، وكان يوما من الأيام المشهودة لم يكن في ماضي الأيام مثله .
ورأى الناس من شجاعة
المنصور ما لم يظنوه ، فزادت هيبته في قلوبهم ، ورحل
أبو يزيد عن
القيروان أواخر ذي القعدة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة ، ثم عاد إليها فلم يخرج إليه أحد ، ففعل ذلك غير مرة ، ونادى
المنصور : من أتى برأس
أبي يزيد ، فله عشرة آلاف دينار ، وأذن الناس في القتال ، فجرى قتال شديد ، فانهزم أصحاب
المنصور حتى دخلوا الخندق ، ثم رجعت الهزيمة على
أبي يزيد ، فافترقوا وقد انتصف بعضهم من بعض ، وقتل بينهم جمع عظيم ، وعادت الحرب مرة لهذا ومرة لهذا ، وصار
أبو يزيد يرسل السرايا ، فيقطع الطريق بين
المهدية والقيروان وسوسة .
ثم إنه أرسل إلى
المنصور يسأل أن يسلم إليه حرمه وعياله الذين خلفهم
بالقيروان وأخذهم
المنصور ، فإن فعل ذلك ، دخل في طاعته على أن يؤمنه وأصحابه ، وحلف له بأغلظ الأيمان على ذلك ، فأجابه
المنصور إلى ما طلب ، وأحضر عياله وسيرهم إليه
[ ص: 148 ] مكرمين ، بعد أن وصلهم ، وأحسن كسوتهم ، وأكرمهم ، فلما وصلوا إليه ، نكث جميع ما عقده ، وقال : إنما وجههم خوفا مني ، فانقضت سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة ، ودخلت سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة ، وهم على حالهم ( في القتال ) .
ففي خامس المحرم منها زحف
أبو يزيد ، وركب
المنصور ، وكان بين الفريقين قتال ما سمع بمثله ، وحملت
البربر على
المنصور وحمل عليها ، وجعل يضرب فيهم ، فانهزموا منه بعد أن قتل خلق كثير ، فلما انتصف المحرم عبأ
المنصور عسكره ، فجعل في الميمنة أهل
إفريقية ،
وكتامة في الميسرة ، وهو في عبيده وخاصته في القلب ، فوقع بينهم قتال شديد ، فحمل
أبو يزيد على الميمنة فهزمها ، ثم حمل على القلب فبادر إليه
المنصور ، وقال : هذا يوم الفتح إن شاء الله تعالى . وحمل هو ومن معه حملة رجل واحد ، فانهزم
أبو يزيد ، وأخذت السيوف أصحابه فولوا منهزمين ، وأسلموا أثقالهم ، وهرب
أبو يزيد على وجهه ، فقتل من أصحابه ما لا يحصى ، فكان ما أخذه أطفال أهل
القيروان من رءوس القتلى عشرة آلاف رأس ، وسار
أبو يزيد إلى تاه مديت .