ذكر
قتل أبي يزيد
لما تمت الهزيمة على
أبي يزيد ، أقام
المنصور يتجهز للمسير في أثره ، ثم رحل أواخر شهر ربيع الأول من السنة ، واستخلف على البلد
مذاما الصقلي ، فأدرك
أبا يزيد وهو محاصر مدينة باغاية ; لأنه أراد دخولها لما انهزم ، فمنع من ذلك ، فحصرها ، فأدركه
المنصور وقد كاد يفتحها ، فلما قرب منه هرب
أبو يزيد ، وجعل كلما قصد موضعا يتحصن فيه ، سبقه
المنصور ، حتى وصل طبنة ، فوصلت رسل
محمد بن خزر [ ص: 149 ] الزناتي ، وهو من أعيان أصحاب
أبي يزيد يطلب الأمان ، فأمنه
المنصور ، وأمره أن يرصد
أبا يزيد ، واستمر الهرب
بأبي يزيد حتى وصل إلى جبل
البربر ويسمى برزال ، وأهله على مذهبه ، وسلك الرمال ليختفي أثره ، فاجتمع معه خلق كثير ، فعاد إلى نواحي مقبرة
والمنصور ( بها ، فكمن
أبو يزيد أصحابه ، فلما وصل عسكر
المنصور رآهم ، فحذروا منهم ، فعبأ حينئذ
أبو يزيد أصحابه ، واقتتلوا ، فانهزمت ميمنة
المنصور ) ، وحمل هو بنفسه ومن معه ، فانهزم
أبو يزيد إلى جبل سالات ، ورحل
المنصور في أثره ، ( فدخل مدينة
المسيلة ، ورحل في أثر
أبي يزيد ) في جبال وعرة ، وأودية عميقة خشنة الأرض ، فأراد الدخول وراءه ، فعرفه الأدلاء أن هذه الأرض لم يسلكها جيش قط ، واشتد الأمر على أهل العسكر ، فبلغ عليق كل دابة دينارا ونصفا ، وبلغت قربة الماء دينارا ، وإن ما وراء ذلك رمال وقفار بلاد
السودان ، ليس فيها عمارة ، وإن
أبا يزيد اختار الموت جوعا وعطشا على القتل بالسيف .
فلما سمع بذلك ، رجع إلى بلاد
صنهاجة ، فوصل إلى موضع يسمى قرية
دمره ، فاتصل به الأمير
زيري بن مناد الصنهاجي الحميري بعساكر
صنهاجة ،
وزيري هذا هو جد بني باديس ملوك إفريقية - كما يأتي ذكره ، إن شاء الله تعالى - فأكرمه
المنصور وأحسن إليه ، ووصل كتاب
محمد بن خزر يذكر الموضع الذي فيه
أبو يزيد من الرمال .
ومرض
المنصور مرضا شديدا أشفى منه ، فلما أفاق من مرضه ، رحل إلى
المسيلة ثاني رجب ، وكان
أبو يزيد قد سبقه إليها لما بلغه من مرض
المنصور ، وحصرها ، فلما قصده
المنصور ، هرب منه يريد بلاد
السودان ، فأبى ذلك
بنو كملان وهوارة وخدعوه ، وصعد
[ ص: 150 ] إلى جبال
كتامة وعجيسة وغيرهم ، فتحصن بها واجتمع إليه أهلها ، وصاروا ينزلون يتخطفون الناس ، فسار
المنصور عاشر شعبان إليه ، فلم ينزل
أبو يزيد ، فلما عاد نزل إلى ساقة العسكر ، فرجع
المنصور ، ووقعت الحرب فانهزم
أبو يزيد ، وأسلم أولاده وأصحابه ، ولحقه فارسان فعقرا فرسه فسقط عنه ، فأركبه بعض أصحابه ، ولحقه
زيري بن مناد فطعنه فألقاه ، وكثر القتال عليه ، فخلصه أصحابه وخلصوا معه ، وتبعهم أصحاب
المنصور ، فقتلوا منهم ما يزيد على عشرة آلاف .
ثم سار
المنصور في أثره أول شهر رمضان ، فاقتتلوا أيضا أشد قتال ، ولم يقدر أحد الفريقين على الهزيمة لضيق المكان وخشونته ، ثم انهزم
أبو يزيد أيضا ، واحترقت أثقاله وما فيها ، وطلع أصحابه على رءوس الجبال يرمون بالصخر ، وأحاط القتال (
بالمنصور وتواخذوا بالأيدي ، وكثر القتل ) حتى ظنوا أنه الفناء ، وافترقوا على السواء ، والتجأ
أبو يزيد إلى قلعة
كتامة ، وهي منيعة ، فاحتمى بها .
وفي ذلك اليوم ( أتى إلى
المنصور ) جند له من
كتامة برجل ظهر في أرضهم ادعى الربوبية ، فأمر
المنصور بقتله ، وأقبلت
هوارة وأكثر من مع
أبي يزيد يطلبون الأمان ، فأمنهم
المنصور ، وسار إلى قلعة
كتامة ، فحصر
أبا يزيد فيها ، وفرق جنده حولها ، فناشبه أصحاب
أبي يزيد القتال ، وزحف إليها
المنصور غير مرة ، ففي آخرها ملك أصحابه بعض القلعة ، وألقوا فيها النيران ، وانهزم أصحاب
أبي يزيد ( وقتلوا قتلا ذريعا ، ودخل
أبو يزيد ) وأولاده وأعيان أصحابه إلى قصر في القلعة ، فاجتمعوا فيه ، فاحترقت أبوابه وأدركهم القتل ، فأمر
المنصور بإشعال النار في شعاري الجبل وبين يديه لئلا يهرب
أبو يزيد ، فصار الليل كالنهار .
فلما كان آخر الليل ، خرج أصحابه وهم يحملونه على أيديهم ، وحملوا على
[ ص: 151 ] الناس حملة منكرة ، فأفرجوا لهم ، فنجوا به ، ونزل من القلعة خلق كثير ، فأخذوا ، فأخبروا بخروج
أبي يزيد ، فأمر
المنصور يطلبه ، وقال : ما أظنه إلا قريبا منا ، فبينما هم كذلك إذ أتي
بأبي يزيد ، وذلك أن ثلاثة من أصحابه حملوه من المعركة ثم ولوا عنه ، وإنما حملوه لقبح عرجه ، فذهب لينزل من الوعر ، فسقط في مكان صعب ، فأدرك فأخذ وحمل إلى
المنصور ، فسجد شكرا لله - تعالى ، والناس يكبرون حوله ، وبقي عنده إلى سلخ المحرم من سنة ست وثلاثين وثلاثمائة ، فمات من الجراح التي به ، فأمر بإدخاله في قفص عمل له ، وجعل معه قردين يلعبان عليه ، وأمر بسلخ جلده وحشاه تبنا ، وأمر بالكتب إلى سائر البلاد بالبشارة .
ثم خرج عليه عدة خوارج منهم
محمد بن خزر ، فظفر به
المنصور سنة ست وثلاثين وثلاثمائة ، وكان يريد نصرة
أبي يزيد ، وخرج أيضا فضل بن
أبي يزيد ، وأفسد وقطع الطريق ، فغدر به بعض أصحابه وقتله ، وحمل رأسه إلى
المنصور سنة ست وثلاثين [ وثلاثمائة ] أيضا ، وعاد
المنصور إلى
المهدية ، فدخلها في شهر رمضان من السنة .