ذكر
خروج أبي ركوة على الحاكم بمصر
في هذه السنة ظفر
الحاكم بأبي ركوة ، ونحن نذكر هاهنا خبره أجمع .
[ ص: 550 ] كان
أبو ركوة اسمه الوليد وإنما كني
أبا ركوة لركوة كان يحملها في أسفاره ، سنة
الصوفية ، وهو من ولد
nindex.php?page=showalam&ids=17243هشام بن عبد الملك بن مروان ، ويقرب في النسب من
nindex.php?page=showalam&ids=17237المؤيد هشام بن الحاكم الأموي ، صاحب
الأندلس ، وإن
nindex.php?page=showalam&ids=12511المنصور بن أبي عامر لما استولى على
المؤيد وأخفاه عن الناس ، تتبع أهله ومن يصلح منهم للملك ، فطلبه ، فقتل البعض ، وهرب البعض .
وكان
أبو ركوة ممن هرب ، وعمره حينئذ قد زاد على العشرين سنة ، وقصد
مصر ، وكتب الحديث ، ثم سار إلى
مكة واليمن ، ( وعاد إلى
مصر ودعا بها ) إلى القائم ، فأجابه
بنو قرة وغيرهم .
وسبب استجابتهم أن
nindex.php?page=showalam&ids=14069الحاكم بأمر الله كان قد أسرف في
مصر في قتل القواد ، وحبسهم ، وأخذ أموالهم ، وسائر القبائل معه في ضنك وضيق ، ويودون خروج الملك عن يده ، وكان
الحاكم في الوقت الذي دعا
أبو ركوة بني قرة قد آذاهم ، وحبس منهم جماعة من أعيانهم ، وقتل بعضهم ، فلما دعاهم
أبو ركوة انقادوا له .
وكان بين
بني قرة وبين
زناتة حروب ودماء ، فاتفقوا على الصلح ، ومنع أنفسهم من
الحاكم ، فقصد
بني قرة ، وفتح يعلم الصبيان الخط ، وتظاهر بالدين والنسك ، وأمهم في صلواتهم ، فشرع في دعوتهم إلى ما يريد ، فأجابوه وبايعوه ، واتفقوا عليه ، وعرفهم حينئذ نفسه ، وذكر لهم أن عندهم في الكتب أنه يملك
مصر وغيرها ، ووعدهم ومناهم ، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا . فاجتمعت
بنو قرة وزناتة على بيعته ، وخاطبوه بالإمامة ، وكانوا بنواحي
برقة . فلما سمع الوالي
ببرقة خبره كتب إلى
الحاكم ( ينهيه إليه ) ، ويستأذنه في قصدهم وإصلاحهم ، فأمره بالكف عنهم واطراحهم .
[ ص: 551 ] ثم إن
أبا ركوة جمعهم وسار إلى
برقة ، واستقر بينهم على أن يكون الثلث من الغنائم له ، والثلثان
لبني قرة وزناتة ، فلما قاربها خرج إليه واليها ، فالتقوا ، فانهزم عسكر
الحاكم ، وملك
أبو ركوة برقة ، وقوي هو ومن معه بما أخذوا من الأموال والسلاح وغيره ، ونادى بالكف عن الرعية والنهب ، وأظهر العدل وأمر بالمعروف .
فلما وصل المنهزمون إلى
الحاكم عظم عليه الأمر ، وأهمته نفسه وملكه ، وعاود الإحسان إلى الناس ، والكف عن أذاهم ، وندب عسكرا نحو خمسة آلاف فارس وسيرهم ، وقدم عليهم قائدا يعرف
بينال الطويل ، وسيره ، فبلغ
ذات الحمام ، وبينها وبين
برقة مفازة فيها منزلان ، لا يلقى السالك الماء إلا في آبار عميقة بصعوبة وشدة . فسير
أبو ركوة قائدا في ألف فارس ، وأمرهم بالمسير إلى ينال ومن معه ومطاردتهم قبل الوصول إلى المنزلين المذكورين ، وأمرهم إذا عادوا أن يغوروا الآبار ، ففعلوا ذلك وعادوا ، فحينئذ سار
أبو ركوة في عساكره ولقيهم وقد خرجوا من المفازة على ضعف وعطش ، فقاتلهم ، فاشتد القتال ، فحمل ينال على عسكر
أبي ركوة ، فقتل منهم خلقا كثيرا ،
وأبو ركوة واقف لم يحمل هو ولا عسكره ، فاستأمن إليه جماعة كثيرة من كتامة لما نالهم من الأذى والقتل من
الحاكم ، وأخذوا الأمان لمن بقي من أصحابهم ، ولحقهم الباقون ، فحمل حينئذ بهم على عساكر
الحاكم ، فانهزمت وأسر ينال وقتل ، وأسر أكثر عسكره ، وقتل منهم خلق كثير ، وعاد إلى
برقة وقد امتلأت أيديهم من الغنائم .
وانتشر ذكره ، وعظمت هيبته ، وأقام
ببرقة ، وترددت سراياه إلى الصعيد وأرض
مصر ، وقام
الحاكم من ذلك وقعد ، وسقط في يده ، وندم على ما فرط ، وفرح جند
مصر وأعيانها ، وعلم
الحاكم ذلك ، فاشتد قلقه ، وأظهر الاعتذار عن الذي فعله .
وكتب الناس إلى
أبي ركوة يستدعونه ، وممن كتب إليه
الحسين بن جوهر المعروف بقائد القواد ، فسار حينئذ عن
برقة إلى الصعيد ، وعلم
الحاكم ، فاشتد خوفه ، وبلغ الأمر كل مبلغ ، وجمع عساكره واستشارهم ، وكتب إلى
الشام يستدعي
[ ص: 552 ] العساكر فجاءته ، وفرق الأموال ، والدواب ، والسلاح ، وسيرهم وهم اثنا عشر ألف رجل بين فارس وراجل ، سوى العرب ، واستعمل عليهم
الفضل بن عبد الله . فلما قاربوا
أبا ركوة لقيهم في عساكره ، ورام مناجزة المصريين ،
والفضل يحاجزه ويدافع ، ويراسل أصحاب
أبي ركوة يستميلهم ويبذل لهم الرغائب ، فأجابه قائد كبير من
بني قرة يعرف بالماضي ، وكان يطالعه بأخبار القوم وما هم عازمون ، فيدبر
الفضل أمره على حسب ما يعلمه منه .
وضاقت
الميرة على العساكر فاضطر
الفضل إلى اللقاء ، فالتقوا واقتتلوا
بكوم شريك ، فقتل بين الفريقين قتلى كثيرة ، ورأى
الفضل من جمع
أبي ركوة ما هاله ، وخاف المناجزة فعاد إلى عسكره .
وراسل
بنو قرة العرب الذين في عسكر
الحاكم يستدعونهم إليهم ويذكرونهم أعمال
الحاكم بهم ، فأجابوهم ، واستقر الأمر أن يكون
الشام للعرب ويصير
لأبي ركوة ومن معه
مصر ، وتواعدوا ليلة يسير فيها
أبو ركوة إلى
الفضل ، فإذا وصل إليه انهزمت العرب ، ولا يبقى دون مصر مانع . فكتب الماضي إلى
الفضل بذلك ، فلما كانت ليلة الميعاد جمع
الفضل رؤساء العرب ليفطروا عنده ، وأظهر أنه صائم ، وطاولهم الحديث ، وتركهم في خيمة واعتزلهم ، ووصى أصحابه بالحذر ، ورام العرب العود إلى خيامهم ، فعللهم وطاولهم ، ثم أحضر الطعام وأحضرهم ، فأكلوا وتحدثوا .
وسير
الفضل سرية إلى طريق
أبي ركوة ، فلقوا العسكر الوارد من عنده ، فاقتتلوا ، ووصل الخبر إلى العسكر وارتج ، وأراد العرب الركوب ، فمنعهم ، وأرسل إلى أصحابهم من العرب فأمرهم بالركوب والقتال ، ولم يكن عندهم علم بما فعل رؤساؤهم ، فركبوا واشتد القتال ، ورأى
بنو قرة الأمر على خلاف ما قرروه .
ثم ركب
الفضل ومعه رؤساء العرب ، وقد فاتهم ما عزموا عليه ، فباشروا الحرب وغاصوا فيها ، وورد
أبو ركوة مددا لأصحابه ، فلما رآه
الفضل رد أصحابه وعاد إلى المدافعة .
[ ص: 553 ] وجهز
الحاكم عسكرا آخر ، أربعة آلاف فارس ، وعبروا إلى
الجيزة ، فسمع
أبو ركوة بهم ، فسار مجدا في عسكره ليوافقهم عند
مصر ، وضبط الطرق لئلا يسمع
الفضل ، ولم يكن الماضي يكاتبه ، فساروا ، وأرسل إليه من الطريق يعرفه الخبر ، وقطع
أبو ركوة مسيرة خمس ليال في ليلتين ، وكبسوا عسكر
الحاكم بالجيزة ، وقتلوا نحو ألف فارس ، وخاف أهل
مصر ، ولم يبرز
الحاكم من قصره ، وأمر
الحاكم من عنده من العساكر بالعبور إلى
الجيزة ، ورجع
أبو ركوة فنزل عند الهرمين ، ثم انصرف من يومه ، وكتب
الحاكم إلى
الفضل كتابا ظاهرا يقول فيه : إن
أبا ركوة انهزم من عساكرنا ، ليقرأه على القواد ، وكتب إليه سرا يعلمه الحال . فأظهر
الفضل البشارة بانهزام
أبي ركوة تسكينا للناس .
ثم سار
أبو ركوة إلى موضع يعرف
بالسبخة ، كثير الأشجار ، وتبعه
الفضل ، وكمن
أبو ركوة بين الأشجار ، وطارد عسكر
الفضل ، ورجع عسكره القهقرى ليستجروا عسكر
الفضل ويخرج الكمين عليهم ، فلما رأى الكمناء رجوع عسكر
أبي ركوة ظنوها الهزيمة لا شك فيها ، فولوا يتبعونهم ، وركبهم أصحاب
الفضل ، وعلوهم بالسيوف فقتل منهم ألوف كثيرة ، وانهزم
أبو ركوة ومعه
بنو قرة وساروا إلى حللهم ، فلما بلغوها ثبطهم الماضي عنه فقالوا له : قد قاتلنا معك ، ولم يبق فينا قتال ، فخذ لنفسك وانج; فسار إلى بلد
النوبة ، فلما بلغ إلى حصن يعرف
بحصن الجبل للنوبة أظهر أنه رسول من
الحاكم إلى ملكهم ، فقال له صاحب الحصن : الملك عليل ، ولا بد من استخراج أمره في مسيرك إليه .
وبلغ
الفضل الخبر ، فأرسل إلى صاحب القلعة بالخبر على حقيقته ، فوكل به من يحفظه ، وأرسل إلى الملك بالحال ، وكان ملك
النوبة قد توفي وملك ولده فأمر بأن يسلم إلى نائب
الحاكم ، فتسلمه رسول
الفضل وسار به ، فلقيه
الفضل وأكرمه وأنزله في مضاربه ، وحمله إلى
مصر فأشهر بها ، وطيف به .
وكتب
أبو ركوة إلى
الحاكم رقعة يقول فيها : يا مولانا الذنوب عظيمة ، وأعظم
[ ص: 554 ] منها عفوك ، والدماء حرام ما لم يحللها سخطك ، وقد أحسنت وأسأت وما ظلمت إلا نفسي ، وسوء عملي أوبقني ، وأقول :
فررت فلم يغن الفرار ، ومن يكن مع الله لم يعجزه في الأرض هارب ووالله ما كان الفرار لحاجة
، سوى فزع الموت الذي أنا شارب وقد قادني جرمي إليك برمتي
، كما خر ميت في رحا الموت سارب وأجمع كل الناس أنك قاتلي
، فيا رب ظن ربه فيك كاذب وما هو إلا الانتقام ، وينتهي
، وأخذك منه واجبا لك واجب
ولما طيف به ألبس طرطورا ، وجعل
خلفه قرد يصفعه ، كان معلما بذلك ، ثم حمل إلى ظاهر
القاهرة ليقتل ويصلب ، فتوفي قبل وصوله ، فقطع رأسه وصلب ، وبالغ
الحاكم في إكرام
الفضل إلى حد أنه عاده في مرضة مرضها دفعتين ، فاستعظم الناس ذلك ، ثم إنه عمل في قتل
الفضل لما عوفي فقتله .