[ ص: 615 ] وكان
سبب حفره إياها أنه قال : بينا أنا نائم بالحجر إذ أتاني آت فقال : احفر
طيبة . قال : قلت : وما
طيبة ؟ قال : ثم ذهب فرجعت الغد إلى مضجعي فنمت فيه ، فجاءني فقال : احفر
برة . قال : قلت : وما برة ؟ قال : ثم ذهب عني ، قال : فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال : احفر
المضنونة . قال : قلت : وما
المضنونة ؟ قال فذهب عني ، فجاءني فقال : احفر
زمزم ، إنك إن حفرتها لا تندم . فقلت . وما
زمزم ؟ قال : تراث من أبيك الأعظم ، لا تنزف أبدا ولا تذم ، تسقي الحجيج الأعظم ، مثل نعام جافل لم يقسم ، ينذر فيها ناذر لمنعم ، يكون ميراثا وعقدا محكم ، ليس كبعض ما قد تعلم ، وهي بين الفرث والدم ، عند نقرة الغراب الأعصم ، عند
قرية النمل .
فلما بين له شأنها ، ودل على موضعها ، وعرف أنه قد صدق ، غدا بمعوله ومعه ابنه
الحارث ليس له ولد غيره ، فحفر بين إساف ونائلة في الموضع الذي تنحر فيه
قريش لأصنامها ، وقد رأى الغراب ينقر هناك . فلما بدا له الطوي كبر ، فعرفت
قريش أنه قد أدرك حاجته ، فقاموا إليه فقالوا : بئر أبينا
إسماعيل ، وإن لنا فيها حقا فأشركنا معك . قال : ما أنا بفاعل ، هذا أمر خصصت به دونكم ، قالوا : فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها ، قال : فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم . قالوا : كاهنة
بني سعد بن هذيم ، وكانت بمشارف
الشام .
[ ص: 616 ] فركب
عبد المطلب ومعه نفر من
بني عبد مناف ، وركب من كل قبيلة من
قريش نفر ، حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين
الحجاز والشام في ماء
عبد المطلب وأصحابه ، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة ، فطلبوا الماء ممن معهم من
قريش فلم يسقوهم . فقال لأصحابه : ماذا ترون ؟ فقالوا : رأينا تبع لرأيك فمرنا بما شئت . قال : فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم لنفسه حفرة ، فكلما مات واحد واراه أصحابه حتى يكون آخركم موتا وقد وارى الجميع ، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب . قالوا : نعم ما رأيت . ففعلوا ما أمرهم به .
ثم إن
عبد المطلب قال لأصحابه : والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت ، لا نضرب في الأرض ونبتغي لأنفسنا لعجز . فارتحلوا ومن معه من قبائل
قريش ينظرون إليهم ، ثم ركب
عبد المطلب ، فلما انبعثت به راحلته انفجرت من تحت خفها عين عذبة من ماء ، فكبر وكبر أصحابه وشربوا وملأوا أسقيتهم ، ثم دعا القبائل من
قريش فقال : هلموا إلى الماء فقد سقانا الله . فقال أصحابه : لا نسقيهم لأنهم لم يسقونا . فلم يسمع منهم وقال : فنحن إذا مثلهم ! فجاء أولئك
القرشيون وملأوا أسقيتهم وقالوا : قد والله قضى الله لك علينا يا
عبد المطلب ، والله لا نخاصمك في
زمزم أبدا ، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك
زمزم ، فارجع إلى سقايتك راشدا .
فرجعوا إليه ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلوا بينه وبينها .
فلما فرغ من حفرها وجد الغزالين اللذين دفنتهما جرهم فيها ، وهما من ذهب ، ووجد فيها أسيافا قلعية وأدراعا . فقالت له
قريش : يا
عبد المطلب لنا معك في هذا شرك وحق . قال : لا ولكن هلم إلى أمر نصف بيني وبينكم ، نضرب عليها بالقداح . فقالوا : فكيف تصنع ؟ قال : أجعل
للكعبة قدحين ، ولكم قدحين ، ولي قدحين ، فمن خرج قداحه على شيء أخذه ، ومن تخلف قداحه فلا شيء له . قالوا : أنصفت . ففعلوا ذلك وضربت القداح عند هبل ، فخرج قدحا
الكعبة على الغزالين ، وخرج قدحا
عبد المطلب على الأسياف والأدراع ، ولم يخرج
لقريش شيء من القداح . فضرب
عبد المطلب الأسياف بابا
للكعبة ، وجعل فيه الغزالين صفائح من ذهب ، فكان أول ذهب حليت به
الكعبة .
[ ص: 617 ] وقيل : بل بقيا في
الكعبة وسرقا ، على ما نذكره .
وأقبل الناس والحجاج على
بئر زمزم تبركا بها ورغبة فيها ، وأعرضوا عما سواها من الآبار .
ولما رأى
عبد المطلب تظاهر
قريش عليه نذر لله تعالى : إن يرزقه عشرة من الولدان يبلغون أن يمنعوه ويذبوا عنه نحر أحدهم قربانا لله تعالى .
وقد ذكر النذر في اسم
عبد الله أبي النبي - صلى الله عليه وسلم .
وعبد المطلب أول من خضب بالوسمة ، وهو السواد ، لأن الشيب أسرع إليه .