صفحة جزء
ذكر إرسال قريش إلى النجاشي في طلب المهاجرين

لما رأت قريش أن المهاجرين قد اطمأنوا بالحبشة وأمنوا ، وأن النجاشي قد أحسن صحبتهم ، ائتمروا بينهم فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي أمية ومعهما هدية إليه وإلى أعيان أصحابه ، فسارا حتى وصلا الحبشة ، فحملا إلى النجاشي هديته وإلى أصحابه هداياهم وقالا لهم : إن ناسا من سفهائنا فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دين الملك وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم ، وقد أرسلنا أشراف قومهم إلى الملك ليردهم إليهم ، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يرسلهم معنا من غير أن يكلمهم ، وخافا أن يسمع النجاشي كلام المسلمين أن لا يسلمهم . فوعدهما أصحاب النجاشي المساعدة على ما يريدان . ثم إنهما حضرا عند النجاشي فأعلماه ما قد قالاه ، فأشار أصحابه بتسليم المسلمين إليهما . فغضب من ذلك وقال : لا والله لا أسلم قوما جاوروني ونزلوا بلادي ، واختاروني على من سواي ، حتى أدعوهم وأسألهم عما يقول هذان ، فإن كانا صادقين سلمتهم إليهما ، وإن كانوا على غير ما يذكر هذان منعتهم وأحسنت جوارهم .

ثم أرسل النجاشي إلى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعاهم فحضروا ، وقد أجمعوا على صدقه فيما ساءه وسره ، وكان المتكلم عنهم جعفر بن أبي طالب . فقال لهم النجاشي : ما [ ص: 677 ] هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ، ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من الملل ؟ فقال جعفر : أيها الملك كنا أهل جاهلية نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا لتوحيد الله ، وأن لا نشرك به شيئا ، ونخلع ما كنا نعبد من الأصنام ، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم ، وأمرنا بالصلاة والصيام . وعدد عليه أمور الإسلام ، قال : فآمنا به وصدقناه ، وحرمنا ما حرم علينا ، وحللنا ما أحل لنا ، فتعدى علينا قومنا فعذبونا ، وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان ، فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك على من سواك ، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك .

فقال النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله شيء ؟ قال : نعم ، فقرأ عليه سطرا من ( كهيعص ) ، فبكى النجاشي وأساقفته ، وقال النجاشي : إن هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مشكاة واحدة ، انطلقا ، والله لا أسلمهم إليكما أبدا ! .

فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص : والله لآتينه غدا بما يبيد خضراءهم . فقال له عبد الله بن أبي أمية ، وكان أتقى الرجلين : لا تفعل فإن لهم أرحاما .

فلما كان الغد قال للنجاشي : إن هؤلاء يقولون في عيسىابن مريم قولا عظيما . فأرسل النجاشي فسألهم عن قولهم في المسيح . فقال جعفر : نقول فيه الذي جاءنا به نبينا : هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول . فأخذ النجاشي عودا من الأرض وقال : ما عدا عيسى ما قلت هذا العود . فنخرت بطارقته ، فقال : وإن نخرتم . وقال للمسلمين : اذهبوا فأنتم آمنون ، ما أحب أن لي جبلا من ذهب وأنني آذيت رجلا منكم . ورد هدية قريش وقال : ما أخذ الله الرشوة مني حتى آخذها منكم ، ولا أطاع الناس في حتى أطيعهم فيه . وأقام المسلمون بخير دار .

وظهر ملك من الحبشة فنازع النجاشي في ملكه ، فعظم ذلك على المسلمين ، [ ص: 678 ] وسار النجاشي إليه ليقاتله ، وأرسل المسلمون الزبير بن العوام ليأتيهم بخبره ، وهم يدعون له ، فاقتتلوا ، فظفر النجاشي ، فما سر المسلمون بشيء سرورهم بظفره .

قيل : إن معنى قوله إن الله لم يأخذ الرشوة مني ، أن أبا النجاشي لم يكن له ولد غيره ، وكان له عم قد أولد اثني عشر ولدا ، فقالت الحبشة : لو قتلنا أبا النجاشي وملكنا أخاه فإنه لا ولد له غير هذا الغلام ، وكان أخوه وأولاده يتوارثون الملك دهرا . فقتلوا أباه وملكوا عمه ومكثوا على ذلك حينا ، وبقي النجاشي عند عمه ، وكان عاقلا ، فغلب على أمر عمه ، فخافت الحبشة أن يقتلهم جزاء لقتل أبيه ، فقالوا لعمه : إما أن تقتل النجاشي ، وإما أن تخرجه من بين أظهرنا فقد خفناه . فأجابهم إلى إخراجه من بلادهم على كره منه ، فخرجوا إلى السوق فباعوه من تاجر بستمائة درهم . فسار به التاجر في سفينته . فلما جاء العشاء هاجت سحابة فأصابت عمه بصاعقة ، ففزعت الحبشة إلى أولاده ، فإذا هم لا خير فيهم ، فهرج على الحبشة أمرهم ، فقال بعضهم : والله لا يقيم أمركم إلا النجاشي ، فإن كان لكم بالحبشة رأي فأدركوه .

فخرجوا في طلبه حتى أدركوه وملكوه . وجاء التاجر وقال لهم : إما أن تعطوني مالي وإما أن أكلمه . فقالوا : كلمه . فقال : أيها الملك ، ابتعت غلاما بستمائة درهم ثم أخذوا الغلام والمال . فقال النجاشي : إما أن تعطوه دراهمه وإما أن يضع الغلام يده في يده فليذهبن به حيث شاء . فأعطوه دراهمه ، فهذا معنى قوله . فكان ذلك أول ما علم من عدله ودينه .

قال : ولما مات النجاشي كانوا لا يزالون يرون على قبره نورا .

التالي السابق


الخدمات العلمية