ذكر
حال قاضي جبلة
هو
أبو محمد عبيد الله بن منصور المعروف بابن صليحة ، وكان والده رئيسها أيام كان
الروم مالكين لها على المسلمين ، ويقضي بينهم ، فلما ضعف أمر
الروم ، وملكها المسلمون ، وصارت تحت حكم جلال الملك
أبي الحسن علي بن عمار ، صاحب
طرابلس كان
منصور على عادته في الحكم فيها . فلما توفي
منصور قام ابنه
أبو محمد مقامه ، وأحب الجندية ، واختار الجند ، فظهرت شهامته ، فأراد
ابن عمار أن يقبض عليه ، فاستشعر منه ، وعصى عليه ، وأقام الخطبة العباسية ، فبذل
ابن عمار nindex.php?page=showalam&ids=15867لدقاق بن تتش مالا ليقصده ويحصره ، ففعل ، وحصره ، فلم يظفر منه بشيء ، وأصيب صاحبه
nindex.php?page=showalam&ids=16188أتابك طغتكين بنشابة في ركبتيه وبقي أثرها .
[ ص: 447 ] وبقي
أبو محمد بها مطاعا إلى أن جاء
الفرنج ، لعنهم الله ، فحصروها ، فأظهر أن السلطان
بركيارق قد توجه إلى
الشام ، وشاع هذا ، فرحل
الفرنج ، فلما تحققوا اشتغال السلطان عنهم عاودوا حصاره ، فأظهر أن المصريين قد توجهوا لحربهم ، فرحلوا ثانيا ، ثم عادوا ، فقرر مع
النصارى الذين بها أن يراسلوا
الفرنج ، ويواعدوهم إلى برج من أبراج البلد ليسلموه إليهم ويملكوا البلد ، فلما أتتهم الرسالة جهزوا نحو ثلاثمائة رجل من أعيانهم وشجعانهم ، فتقدموا إلى ذلك البرج فلم يزالوا يرقون في الجبال ، واحدا بعد واحد ، وكلما صار عند ابن صليحة ، وهو على السور ، رجل منهم قتله إلى أن قتلهم أجمعين ، فلما أصبحوا رمى الرءوس إليهم فرحلوا عنه .
وحصروه مرة أخرى ، ونصبوا على البلد برج خشب ، وهدموا برجا من أبراجه ، وأصبحوا وقد بناه
أبو محمد ، ثم نقب في السور نقوبا ، وخرج من الباب وقاتلهم ، فانهزم منهم ، وتبعوه ، فخرج أصحابه من تلك النقوب ، فأتوا
الفرنج من ظهورهم ، فولوا منهزمين وأسر مقدمهم المعروف
بكند اصطبل ، فافتدى نفسه بمال جزيل .
ثم علم أنهم لا يقعدون عن طلبه ، وليس له من يمنعهم عنه ، فأرسل إلى
nindex.php?page=showalam&ids=16252طغتكين أتابك يلتمس منه إنفاذ من يثق به ليسلم إليه
ثغر جبلة ، ويحميه ليصل هو إلى
دمشق بماله وأهله ، فأجابه إلى ما التمس ، وسير إليه ولده
nindex.php?page=showalam&ids=15587تاج الملوك بوري ، فسلم إليه البلد ، ورحل إلى
دمشق ، وسأله أن يسيره إلى
بغداذ ، ففعل ، وسيره ومعه من يحميه إلى أن وصل إلى الأنبار .
ولما صار
بدمشق أرسل
ابن عمار صاحب
طرابلس إلى
nindex.php?page=showalam&ids=15867الملك دقاق ، وقال : سلم إلي
ابن صليحة عريانا ، وخذ ماله أجمع ، وأنا أعطيك ثلاثمائة ألف دينار ، فلم يفعل . فلما وصل إلى
الأنبار أقام بها أياما ، ثم سار إلى
بغداذ ، وبها السلطان
بركيارق ، فلما وصل أحضره
الوزير الأعز أبو المحاسن عنده ، وقال له السلطان محتاج ، والعساكر
[ ص: 448 ] يطالبونه بما ليس عنده ، ونريد منك ثلاثين ألف دينار ، وتكون له منة عظيمة ، تستحق بها المكافأة والشكر . فقال : السمع والطاعة ، ولم يطلب أن يحط شيئا ، وقال : إن رحلي ومالي في الأنبار بالدار التي نزلتها ، فأرسل الوزير إليها جماعة ، فوجدوا فيها مالا كثيرا ، وأعلاقا نفيسة ، فمن جملة ذلك ألف ومائة قطعة مصاغ عجيب الصنعة ، ومن الملابس والعمائم التي لا يوجد مثلها شيء كثير .
كان ينبغي أن نذكر هذه الحوادث التي بعد انهزام
السلطان محمد إلى هاهنا ، بعد قتل
الباطنية ، فإنها كانت أواخر السنة ، وكان قتلهم في شعبان ، وإنما قدمناها لنتبع بعض الحادثة بعضا لا يفصل بينها شيء .
وأما
nindex.php?page=showalam&ids=15587تاج الملوك بوري ، فإنه لما ملك
جبلة ، وتمكن منها ، أساء السيرة هو وأصحابه مع أهلها ، وفعلوا بهم أفعالا أنكروها ، فراسلوا القاضي
فخر الملك أبا علي عمار بن محمد بن عمار ، صاحب
طرابلس ، وشكوا إليه ما يفعل بهم ، وطلبوا منه أن يرسل إليهم بعض أصحابه ليسلموا إليه البلد ، ففعل ذلك ، وسير إليهم عسكرا ، فدخلوا
جبلة ، واجتمعوا بأهلها ، وقاتلوا
تاج الملوك ومن معه ، فانهزم
الأتراك ، وملك عسكر
ابن عمار جبلة ، وأخذوا
تاج الملوك أسيرا ، وحملوه إلى
طرابلس ، فأكرمه
ابن عمار ، وأحسن إليه ، وسيره إلى أبيه
بدمشق ، واعتذر إليه ، وعرفه صورة الحال ، وأنه خاف أن يملك
الفرنج جبلة .