[ ص: 496 ] ذكر
غزو سقمان وجكرمش الفرنج
لما استطال
الفرنج ، خذلهم الله تعالى ، بما ملكوه من بلاد الإسلام ، واتفق لهم اشتغال عساكر الإسلام وملوكه ، بقتال بعضهم بعضا ، تفرقت حينئذ بالمسلمين الآراء ، واختلفت الأهواء ، وتمزقت الأموال .
وكانت حران لمملوك من مماليك
ملكشاه اسمه
قراجه ، فاستخلف عليها إنسانا يقال له
محمد الأصبهاني ، وخرج في العام الماضي ، فعصى
الأصبهاني على قراجه ، وأعانه أهل البلد لظلم قراجه .
وكان
الأصبهاني جلدا ، شهما ، فلم يترك
بحران من أصحاب
قراجه سوى غلام تركي يعرف
بجاولي ، وجعله أصفهسلار العسكر ، وأنس به ، فجلس معه يوما للشرب ، فاتفق
جاولي مع خادم له على قتله فقتلاه وهو سكران .
فعند ذلك سار
الفرنج إلى
حران وحصروها .
فلما سمع
معين الدولة سقمان ،
وشمس الدولة جكرمش ذلك ، وكان بينهما حرب ،
وسقمان يطالب بقتل ابن أخيه ، وكل منهما يستعد للقاء صاحبه ، وأنا أذكر سبب قتل
جكرمش له ، إن شاء الله تعالى ، أرسل كل منهما إلى صاحبه يدعوه إلى الاجتماع معه لتلافي أمر
حران ، ويعلمه أنه قد بذل نفسه لله تعالى ، وثوابه ، فكل واحد منهما أجاب صاحبه إلى ما طلب منه ، وسارا فاجتمعا على الخابور ، وتحالفا ، وسارا إلى لقاء
الفرنج .
وكان مع
سقمان سبعة آلاف فارس مع
التركمان ، ومع
جكرمش ثلاثة آلاف فارس من
الترك ، والعرب ،
والأكراد ، فالتقوا على
نهر البليخ ، وكان المصاف بينهم هناك ، فاقتتلوا ، فأظهر المسلمون الانهزام ، فتبعهم
الفرنج نحو فرسخين ، فعاد عليهم المسلمون فقتلوهم كيف شاءوا ، وامتلأت أيدي
التركمان من الغنائم ، ووصلوا إلى الأموال
[ ص: 497 ] العظيمة ، لأن سواد
الفرنج كان قريبا ، وكان بيمند ، صاحب
أنطاكية ،
وطنكري ، صاحب الساحل ، قد انفردا وراء جبل ليأتيا المسلمين من وراء ظهورهم ، إذا اشتدت الحرب ، فلما خرجا رأيا
الفرنج منهزمين ، وسوادهم منهوبا ، فأقاما بالليل ، وهربا ، فتبعهما المسلمون ، وقتلوا من أصحابهما كثيرا ، وأسروا كذلك ، وأفلتا في ستة فرسان .
وكان
القمص بردويل ، صاحب
الرها ، قد انهزم في جماعة من قمامصتهم ، وخاضوا
نهر البليخ ، فوحلت خيولهم ، فجاء التركماني من أصحاب
سقمان فأخذهم ، وحمل
بردويل إلى خيم صاحبه ، وقد سار فيمن معه لاتباع
بيمند ، فرأى أصحاب
جكرمش أن أصحاب
سقمان قد استولوا على مال
الفرنج ، ويرجعون هم من الغنيمة بغير طائل ، فقالوا
لجكرمش : أي منزلة تكون لنا عند الناس ، وعند
التركمان إذا انصرفوا بالغنائم دوننا ؟ وحسنوا له أخذ القمص ، فأنفذ فأخذ القمص من خيم
سقمان ، فلما عاد
سقمان شق عليه الأمر ، وركب أصحابه للقتال ، فردهم ، وقال لهم : لا يقوم فرح المسلمين في هذه الغزاة بغمهم باختلافنا ، ولا أؤثر شفاء غيظي بشماتة الأعداء بالمسلمين .
ورحل لوقته ، وأخذ سلاح
الفرنج ، وراياتهم ، وألبس أصحابه لبسهم ، وأركبهم خيلهم ، وجعل يأتي
حصون شيحان ، وبها
الفرنج ، فيخرجون ظنا منهم أن أصحابهم نصروا ، فيقتلهم ويأخذ الحصن منهم ، فعل ذلك بعدة حصون .
وأما
جكرمش فإنه سار إلى
حران ، فتسلمها ، واستخلف بها صاحبه .
وسار إلى
الرها ، فحصرها خمسة عشر يوما ، وعاد إلى
الموصل ومعه القمص الذي أخذه من خيام
سقمان ، ففاداه بخمسة وثلاثين دينارا ، ومائة وستين أسيرا من المسلمين ، وكان عدة القتلى من
الفرنج يقارب اثني عشر ألف قتيل .