ذكر
أحوال الباطنية وقتل ابن عطاش في هذه السنة ملك
السلطان محمد القلعة التي كان
الباطنية ملكوها بالقرب من
أصبهان ، واسمها
شاه دز ، وقتل صاحبها
أحمد بن عبد الملك بن عطاش ، وولده ، وكانت هذه
القلعة قد بناها
ملكشاه ، واستولى عليها بعده
أحمد بن عبد الملك بن عطاش .
وسبب ذلك أنه اتصل
بدزدار كان لها ، فلما مات استولى
أحمد عليها ، وكان
الباطنية بأصبهان قد ألبسوه تاجا ، وجمعوا له أموالا ، وإنما فعلوا ذلك به لتقدم أبيه
[ ص: 542 ] عبد الملك في مذهبهم ، فإنه كان أديبا بليغا ، حسن الخط ، سريع البديهة ، عفيفا ، وابتلي بحب هذا المذهب ، وكان ابنه
أحمد هذا جاهلا لا يعرف شيئا ، وقيل
لابن الصباح ، صاحب قلعة ألموت : لماذا تعظم
ابن عطاش مع جهله ؟ قال : لمكان أبيه ، لأنه كان أستاذي .
وصار
لابن عطاش عدد كثير ، وبأس شديد ، واستفحل أمره
بالقلعة ، فكان يرسل أصحابه لقطع الطريق ، وأخذ الأموال ، وقتل من قدروا على قتله ، فقتلوا خلقا كثيرا لا يمكن إحصاؤهم ، وجعلوا له على القرى السلطانية وأملاك الناس ضرائب يأخذونها ليكفوا عنها الأذى ، فتعذر بذلك انتفاع السلطان بقراه ، والناس بأملاكهم ، وتمشى لهم الأمر بالخلف الواقع بين السلطانين
بركيارق ومحمد .
فلما صفت السلطنة
لمحمد ، ولم يبق له منازع ، لم يكن عنده أمر أهم من قصد
الباطنية وحربهم ، والانتصاف للمسلمين من جورهم وعسفهم ، فرأى البداية
بقلعة أصبهان التي بأيديهم ، لأن الأذى بها أكثر ، وهي متسلطة على سرير ملكه ، فخرج بنفسه فحاصرهم في سادس شعبان .
وكان قد عزم على الخروج أول رجب ، فساء ذلك من يتعصب لهم من العسكر ، فأرجفوا أن
قلج أرسلان بن سليمان قد ورد
بغداذ وملكها ، وافتعلوا في ذلك مكاتبات ، ثم أظهروا أن خللا قد تجدد
بخراسان ، فتوقف السلطان لتحقيق الأمر ، فلما ظهر بطلانه عزم عزيمة مثله ، وقصد حربهم ، وصعد جبلا يقابل القلعة من غربيها ، ونصب له التخت في أعلاه ، واجتمع له من
أصبهان وسوادها لحربهم الأمم العظيمة للذحول التي يطالبونهم بها .
وأحاطوا بجبل
القلعة ودوره أربعة فراسخ ، ورتب الأمراء لقتالهم ، فكان يقاتلهم كل يوم أمير ، فضاق الأمر بهم ، واشتد الحصار عليهم ، وتعذرت عندهم الأقوات .
فلما اشتد الأمر عليهم كتبوا فتوى فيها : ما يقول السادة الفقهاء أئمة الدين في
[ ص: 543 ] قوم يؤمنون بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وإن ما جاء به
محمد ، صلى الله عليه وسلم ، حق وصدق ، وإنما يخالفون في الإمام : هل يجوز للسلطان مهادنتهم وموادعتهم ، وأن يقبل طاعتهم ، ويحرسهم من كل أذى ؟ فأجاب أكثر الفقهاء بجواز ذلك ، وتوقف بعضهم ، فجمعوا للمناظرة ، ومعهم
أبو الحسن علي بن عبد الرحمن السمنجاني ، وهو من شيوخ الشافعية ، فقال ، بمحضر من الناس ، يجب قتالهم ، ولا يجوز إقرارهم بمكانهم ، ولا ينفعهم التلفظ بالشهادتين ، فإنهم يقال لهم : أخبرونا عن إمامكم ، إذا أباح لكم ما حظره الشرع ، أو حظر عليكم ما أباحه الشرع أتقبلون أمره ؟ فإنهم يقولون نعم ، وحينئذ تباح دماؤهم بالإجماع . وطالت المناظرة في ذلك .
ثم إن
الباطنية سألوا السلطان أن يرسل إليهم من يناظرهم ، وعينوا على أشخاص من العلماء منهم
القاضي أبو العلاء صاعد بن يحيى ، شيخ الحنفية
بأصبهان ، وقاضيها ، وغيره ، فصعدوا إليهم وناظروهم ، وعادوا كما صعدوا . وإنما كان قصدهم التعلل والمطاولة ، فلج حينئذ السلطان في حصرهم ، فلما رأوا عين المحاقة ، أذعنوا إلى تسليم القلعة على أن يعطوا عوضا عنها
قلعة خالنجان ، وهي على سبعة فراسخ من
أصبهان ، وقالوا : إنا نخاف على دمائنا وأموالنا من العامة ، فلا بد من مكان نحتمي به منهم ، فأشير على السلطان بإجابتهم إلى ما طلبوا ، فسألوا أن يؤخرهم إلى
النوروز ليرحلوا إلى
خالنجان ويسلموا قلعتهم ، وشرطوا أن لا يسمع قول متنصح فيهم ، وإن قال أحد عنهم شيئا سلمه إليهم ، وأن ما أتاه منهم رده إليهم ، فأجابهم إليه ، وطلبوا أن يحمل إليهم من الإقامة ما يكفيهم يوما بيوم ، فأجيبوا إليه في كل هذا ، وقصدهم المطاولة انتظارا لفتق أوحادث يتجدد .
ورتب لهم وزير السلطان
سعد الملك ما يحمل إليهم كل يوم من الطعام والفاكهة ، وجميع ما يحتاجون إليه ، فجعلوا هم يرسلون ، ويبتاعون من الأطعمة ما يجمعونه ليمتنعوا في قلعتهم ، ثم إنهم وضعوا من أصحابهم من يقتل أميرا كان يبالغ في قتالهم ، فوثبوا عليه وجرحوه ، وسلم منهم ، فحينئذ أمر السلطان بإخراب
قلعة [ ص: 544 ] خالنجان ، وجدد الحصار عليهم ، فطلبوا أن ينزل بعضهم ، ويرسل السلطان معهم من يحميهم إلى أن يصلوا إلى
قلعة الناظر بأرجان ، وهي لهم ، وينزل بعضهم ، ويرسل معهم من يوصلهم إلى
طبس ، وأن يقيم البقية منهم في ضرس من القلعة ، إلى أن يصل إليهم من يخبرهم بوصول أصحابهم ، فينزلون حينئذ ، ويرسل معهم من يوصلهم إلى
ابن الصباح بقلعة ألموت ، فأجيبوا إلى ذلك ، فنزل منهم إلى
الناظر ، وإلى
طبس ، وساروا ، وتسلم السلطان القلعة وخربها .
ثم إن الذين ساروا إلى
قلعة الناظر وطبس وصل منهم من أخبر
ابن عطاش بوصولهم ، فلم يسلم السن الذي بقي بيده ، ورأى السلطان منه الغدر ، والعود عن الذي قرره ، فأمر بالزحف إليه ، فزحف الناس عامة ثاني ذي القعدة ، وكان قد قل عنده من يمنع ويقاتل ، فظهر منهم صبر عظيم ، وشجاعة زائدة ، وكان قد استأمن إلى السلطان إنسان من أعيانهم ، فقال لهم : إني أدلكم على عورة لهم ، فأتى بهم إلى جانب لذلك السن لهم لا يرام ، فقال لهم : اصعدوا من هاهنا ، فقيل إنهم قد ضبطوا هذا المكان وشحنوه بالرجال ، فقال : إن الذي ترون أسلحة وكزاغندات قد جعلوها كهيئة الرجال لقلتهم عندهم .
وكان جميع من بقي ثمانين رجلا ، فزحف الناس من هناك ، فصعدوا منه وملكوا الموضع ، وقتل أكثر
الباطنية ، واختلط جماعة منهم مع من دخل ، فخرجوا معهم ، وأما
ابن عطاش فإنه أخذ أسيرا ، فترك أسبوعا ، ثم أمر به فشهر في جميع البلد ، وسلخ جلده ، فتجلد حتى مات ، وحشي جلده تبنا ، وقتل ولده ، وحمل رأساهما إلى
بغداذ ، وألقت زوجته نفسها من رأس القلعة فهلكت ، وكان معها جواهر نفيسة لم يوجد مثلها ، فهلكت أيضا وضاعت ، وكانت مدة البلوى
بابن عطاش اثنتي عشرة سنة .