ذكر الحرب بين
سنجر والسلطان
محمود
في هذه السنة ، في جمادى الأولى ، كانت
حرب شديدة بين سنجر وابن أخيه السلطان محمود ، ونحن نذكر سياقة ذلك :
قد ذكرنا سنة ثمان وخمسمائة مسير السلطان
سنجر إلى
غزنة ، وفتحها وما كان منه فيها ، ثم عاد إلى
خراسان ، فلما بلغه وفاة أخيه السلطان
محمد ، وجلوس ولده السلطان
محمود في السلطنة وهو زوج ابنة
سنجر ، لحقه حزن عظيم لموت أخيه ، وأظهر من الجزع والحزن ما لم يسمع بمثله ، وجلس للعزاء على الرماد ، وأغلق البلد سبعة أيام ، وتقدم إلى الخطباء بذكر السلطان
محمد بمحاسن أعماله من قتال
الباطنية ، وإطلاق المكوس ، وغير ذلك .
وكان
سنجر يلقب
بناصر الدين ، فلما توفي أخوه
محمد تلقب
بمعز الدين ، وهو لقب أبيه
ملكشاه ، وعزم على قصد بلد الجبال
والعراق وما بيد
محمود ابن أخيه ، فندم على قتل وزيره
أبي جعفر محمد بن فخر الملك أبي المظفر بن نظام الملك .
وكان سبب قتله أنه وحش الأمراء ، واستخف بهم ، فأبغضوه وكرهوه ، وشكوا منه إلى السلطان ، وهو
بغزنة ، فأعلمهم أنه يؤثر قتله ، وليس يمكنه فعل ذلك
بغزنة .
وكان
سنجر قد تغير على وزيره لأسباب منها : أنه أشار عليه بقصد
غزنة ، فلما وصل إلى
بست أرسل
أرسلانشاه صاحبها إلى الوزير ، وضمن له خمسمائة ألف دينار ليثني
سنجر عن قصده ، فأشار عليه بمصالحته ، والعود عنه ، وفعل مثل ذلك بما وراء النهر .
[ ص: 639 ] ومنها : أنه نقل عنه أنه أخذ من
غزنة أموالا جليلة عظيمة المقدار .
ومنها : ما ذكر من إيحاشه الأمراء وغير هذه الأسباب .
فلما عاد إلى
بلخ قبض عليه ، وقتله وأخذ ماله ، وكان له من الجواهر والأموال ما لا حد عليه ، والذي وجد له من العين ألفا ألف دينار ، فلما قتله استوزر بعده
شهاب الإسلام عبد الرزاق بن نظام الملك ، ويعرف بابن الفقيه ، إلا أنه لم تكن له منزلة
ابن فخر الملك عند الناس في علو المنزلة .
فلما اتصل به وفاة أخيه ندم على قتله لأنه كان يبلغ به من الأغراض والملك ما لا يبلغه بكثرة العساكر لميل الناس إليه ، ومحله عندهم .
ثم إن السلطان
محمودا أرسل إلى عمه
سنجر شرف الدين أنوشروان بن خالد وفخر الدين طغايرك بن اليزن ، ومعهما الهدايا والتحف ، وبذل له النزول عن
مازندران ، وحمل مائتي ألف دينار كل سنة ، فوصلا إليه وأبلغاه الرسالة ، فتجهز ليسير إلى
الري ، فأشار عليه
شرف الدين أنوشروان بترك القتال والحرب ، فكان جوابه في ذلك : أن ولد أخي صبي ، وقد تحكم عليه وزيره والحاجب علي .
فلما سمع السلطان
محمود بمسير عمه نحوه ، ووصول الأمير
أنر في مقدمته إلى
جرجان ، تقدم إلى الأمير
علي بن عمر ، وهو أمير حاجب السلطان
محمد ، وبعده صار أمير حاجب السلطان
محمود ، بالمسير ، وضم إليه جمعا كثيرا من العساكر والأمراء ، فاجتمعوا في عشرة آلاف فارس ، فساروا إلى أن قاربوا مقدمة
سنجر التي عليها الأمير
أنر ، فراسله الأمير
علي بن عمر يعرفه وصية السلطان
محمد بتعظيم
سنجر والرجوع إلى أمره ونهيه ، والقبول منه ، وأنه ظن أن
سنجر يحفظ السلطنة على ولده السلطان
محمود ، وأخذ علينا بذلك العهود ، فليس لنا أن نخالفه ، وحيث جئتم إلى بلادنا لا نحتمل ذلك ، ولا نغضي عليه ، وقد علمت أن معك خمسة آلاف فارس ، فأنا أرسل إليك أقل منهم لتعلم أنكم لا تقاوموننا ، ولا تقوون بنا .
فلما سمع الأمير
أنر ذلك عاد عن
جرجان ولحقه بعض عسكر السلطان
محمود ، فأخذوا قطعة من سواده ، وأسروا عدة من أصحابه .
[ ص: 640 ] وكان السلطان
محمود قد وصل إلى
الري ، وهو بها ، وعاد الأمير
علي بن عمر إليه ، فشكره على فعله ، وأثنى عليه وعلى عسكره الذين معه .
وأشير على السلطان
محمود بملازمة
الري ، والمقام بها ، وقيل : إن عساكر
خراسان إذا علموا بمقامك فيها لا يفارقون حدودهم ، ولا يتعدون ولايتهم .
فلم يقبل ذلك وضجر من المقام ، وسار إلى
جرجان .
ووصل السلطان
محمود والأمير
منكبرس من
العراق في عشرة آلاف فارس ، والأمير
منصور بن صدقة أخو
دبيس ، والأمراء
البكجية ، وغيرهم ، وسار
محمود إلى
همذان ، وتوفي بها وزيره الربيب ، واستوزر
nindex.php?page=showalam&ids=14527أبا طالب السميرمي ، وبلغه وصول عمه
سنجر إلى
الري ، فسار نحوه قاصدا قتاله ، فالتقيا بالقرب من
ساوة ثاني جمادى الأولى من السنة ، وكان عسكر السلطان
محمود قد عرفوا المفازة التي بين يدي عسكر
سنجر ، هي ثمانية أيام ، فسبقوهم إلى الماء وملكوه عليهم .
وكان العسكر الخراساني في عشرين ألفا ، ومعهم ثمانية عشر فيلا اسم كبيرها باذهو ، ومن الأمراء الكبار : ولد الأمير
أبي الفضل ، صاحب
سجستان ،
وخوارزمشاه محمد ، والأمير
أنر ، والأمير
قماج ، واتصل به
علاء الدولة كرشاسف بن فرامرز بن كاكويه ، صاحب
يزد ، وهو صهر السلطان
محمد وسنجر على أختهما ، وكان أخص الناس بالسلطان
محمد ، فلما تولى السلطان
محمود تأخر عنه ، فأقطع بلده
لقراجة الساقي الذي صار صاحب بلاد
فارس ، فسار حينئذ
علاء الدولة إلى
سنجر ، وهو من ملوك
الديلم ، وعرف
سنجر الأحوال ، والطريق إلى قصد البلاد ، وما فعله الأمراء من أخذ الأموال ، وما هم عليه من اختلاف الأهواء وحسن قصد البلاد .
وكان عسكر السلطان
محمود ثلاثين ألفا ، ومن الأمراء الكبار : الأمير
علي بن عمر ، أمير حاجب ، والأمير
منكبرس ، وأتابكه
غزغلي ،
وبنو برسق ،
وسنقر البخاري ،
وقراجة الساقي ، ومعه تسعمائة حمل من السلاح .
واستهان عسكر
محمود بعسكر عمه بكثرتهم وشجاعتهم ، وكثرة خيلهم ، فلما التقوا ضعفت نفوس الخراسانية لما رأوا لهذا العسكر من القوة والكثرة فانهزمت ميمنة
سنجر وميسرته ، واختلط أصحابه ، واضطرب أمرهم ، وساروا منهزمين لا يلوون على شيء ، ونهب من أثقالهم شيء كثير ، وقتل أهل السواد كثيرا منهم .
[ ص: 641 ] ووقف
سنجر بين الفيلة في جمع من أصحابه ، وبإزائه السلطان
محمود ، ومعه أتابكه
غزغلي ، فألجأت
سنجر الضرورة ، عند تعاظم الخطب عليه ، أن يقدم الفيلة للحرب ، وكان من بقي معه قد أشاروا عليه بالهزيمة ، فقال : إما النصر أو القتل ، وأما الهزيمة فلا .
فلما تقدمت الفيلة ، ورآها خيل
محمود ، تراجعت بأصحابها على أعقابها ، فأشفق
سنجر على السلطان
محمود في تلك الحال ، وقال لأصحابه : لا تفزعوا الصبي بحملات الفيلة ، فكفوها عنهم ، وانهزم السلطان
محمود ومن معه في القلب ، وأسر أتابكه
غزغلي ، فكان يكاتب السلطان ، ويعده أنه يحمل إليه ابن أخيه ، فعاتبه على ذلك ، فاعتذر بالعجز ، فقتله ، وكان ظالما قد بلغ في ظلم أهل
همذان ، فعجل الله عقوبته .
ولما تم النصر والظفر للسلطان
سنجر أرسل من أعاد المنهزمين من أصحابه إليه ووصل الخبر إلى
بغداذ في عشرة أيام ، فأرسل الأمير
nindex.php?page=showalam&ids=15862دبيس بن صدقة إلى
المسترشد بالله في الخطبة للسلطان
سنجر ، فخطب له في السادس والعشرين من جمادى الأولى ، وقطعت خطبة السلطان
محمود .
وأما السلطان
محمود فإنه سار من الكسرة إلى
أصبهان ، ومعه وزيره
nindex.php?page=showalam&ids=14527أبو طالب السميرمي ، والأمير
علي بن عمر ،
وقراجة .
وأما
سنجر فإنه سار إلى
همذان ، فرأى قلة عسكره ، واجتماع العساكر على ابن أخيه ، فراسله في الصلح ، وكانت والدته تشير عليه بذلك ، وتقول : قد استوليت على
غزنة وأعمالها ، وما وراء النهر وملكت ما لا حد عليه ، وقررت الجمع على أصحابه ، فاجعل ولد أخيك كأحدهم .
وكانت
والدة سنجر هي جدة السلطان
محمود ، فأجاب إلى قولها ، ثم كثرت العساكر عند
سنجر منهم
البرسقي ، وكان عند الملك
مسعود بأذربيجان من حين خروجه عن
بغداذ إلى هذه الغاية ، فقوي بهم .
فعاد الرسول وأبلغه عن الأمراء الذين مع السلطان
محمود أنهم لا يصالحونه حتى يعود إلى
خراسان ، فلم يجب إلى ذلك ، وسار من
همذان إلى
كرج ، وأعاد مراسلة السلطان
محمود في الصلح ، ووعده أن يجعله ولي عهده ، فأجاب إلى ذلك ، واستقر الأمر بينهما ، وتحالفا عليه .
وسار السلطان
محمود إلى عمه
سنجر في شعبان ، فنزل على جدته والدة
سنجر ، وأكرمه عمه ، وبالغ في ذلك ، وحمل له السلطان
محمود هدية عظيمة ، فقبلها ظاهرا ، وردها باطنا ، ولم تقبل منه سوى خمسة أفراس عربية وكتب السلطان
سنجر إلى سائر
[ ص: 642 ] الأعمال التي بيده
كخراسان وغزنة ، وما وراء النهر وغيرها من الولايات ، بأن يخطب للسلطان
محمود بعده ، وكتب إلى
بغداذ مثل ذلك وأعاد عليه جميع ما أخذ من البلاد سوى
الري ، وقصد بأخذها أن تكون له في هذه الديار لئلا يحدث السلطان
محمود نفسه بالخروج .