ذكر
وفاة عز الدين بن البرسقي ،
وولاية عماد الدين زنكي الموصل وأعمالها
في هذه السنة توفي
عز الدين مسعود بن البرسقي ، وهو صاحب
الموصل ، وكان موته بمدينة
الرحبة ، وسبب مسيره إليها أنه لما استقامت أموره في ولايته ، وراسل
السلطان محمودا ، وخطب له ولاية ما كان أبوه يتولاه من
الموصل وغيرها ، أجاب السلطان إلى ما طلب ، فرتب الأمور وقررها ، فكثر جنده ، وكان شجاعا شهما ، فطمع في التغلب على بلاد
الشام ، فجمع عساكره ، وسار إلى
الشام يريد قصد
دمشق ، فابتدأ
بالرحبة ، فوصل إليها ونازلها ، وقام يحاصرها ، فأخذه مرض حاد وهو محاصر لها ، فتسلم القلعة ، ومات بعد ساعة ، فندم من بها على تسليمها إليه .
ولما مات بقي مطروحا على بساط لم يدفن ، وتفرق عنه عساكره ، ونهب بعضهم
[ ص: 7 ] بعضا ، فشغلوا عنه ، ثم دفن بعد ذلك ، وقام بعده أخ له صغير ، واستولى على البلاد مملوك
للبرسقي يعرف
بالجاولي ، ودبر أمر الصبي ، وأرسل إلى السلطان يطلب أن يقرر البلاد على ولد
البرسقي ، وبذل الأموال الكثيرة على ذلك .
وكان الرسول في هذا الأمر القاضي
بهاء الدين أبو الحسن علي بن القاسم الشهرزوري ،
وصلاح الدين محمد أمير حاجب البرسقي ، فحضرا دركاه السلطان ليخاطبا في ذلك ، وكانا يخافان
جاولي ، ولا يرضيان بطاعته والتصرف بما يحكم به ، فاجتمع
صلاح الدين ،
ونصير الدين جقر الذي صار نائبا عن
أتابك عماد الدين بالموصل ، وكان بينهما مصاهرة ، وذكر له
صلاح الدين ما ورد فيه ، وأفشى إليه سره ، فخوفه
نصير الدين من
جاولي ، وقبح عنده طاعته ، وقرر في نفسه أنه إنما أبقاه وأمثاله لحاجته إليهم ، ومتى أجيب إلى مطلوبه لا يبقي على أحد منهم .
وتحدث معه في المخاطبة في ولاية
عماد الدين زنكي ، وضمن له الولايات والأقطاع الكثيرة ، وكذلك
للقاضي بهاء الدين الشهرزوري ، فأجابه إلى ذلك ، وأحضره معه عند
القاضي بهاء الدين ، وخاطباه في هذا الأمر ، وضمنا له كل ما أراده ، فوافقهما على ما طلبا ، وركب هو
وصلاح الدين إلى دار الوزير ، وهو حينئذ
شرف الدين أنوشروان بن خالد ، وقالا له :
قد علمت أنت والسلطان أن ديار الجزيرة
والشام قد تمكن
الفرنج منها ، وقويت شوكتهم بها ، فاستولوا على أكثرها ، وقد أصبحت ولايتهم من حدود
ماردين إلى
عريش مصر ، ما عدا البلاد الباقية بيد المسلمين ، وقد كان
البرسقي مع شجاعته وتجريبه وانقياد العساكر إليه ، يكف بعض عاديتهم وشرهم ، فمذ قتل ازداد طمعهم ، وهذا ولده طفل صغير ، ولا بد للبلاد من رجل شهم شجاع ، ذي رأي وتجربة ، يذب عنها ويحفظها ويحمي حوزتها ، وقد أنهينا الحال لئلا يجري خلل أو وهن على الإسلام والمسلمين ، فيختص اللوم بنا ، ويقال : ألا أنهيتم إلينا جلية الحال ؟ .
فرفع الوزير قولهما إلى السلطان ، فاستحسنه ، وشكرهما عليه ، وأحضرهما
[ ص: 8 ] واستشارهما فيمن يصلح للولاية ، فذكرا جماعة ، منهم
عماد الدين زنكي ، وبذلا عنه تقربا إلى خزانة السلطان مالا جليلا ، فأجاب السلطان إلى توليته ، لما يعلمه من كفايته لما يليه ، فأحضره وولاه البلاد كلها ، وكتب منشوره بها .
وسار فبدأ
بالبوازيج ليملكها ويتقوى بها ، ويجعلها ظهره ; لأنه خاف من
جاولي أنه ربما صده عن البلاد ، فلما دخل
البوازيج سار عنها إلى
الموصل .
فلما سمع
جاولي بقربه من البلد خرج إلى تلقيه ومعه جميع العسكر ، فلما رآه
جاولي نزل عن فرسه ، وقبل الأرض بين يديه ، وعاد في خدمته إلى
الموصل ، فدخلها في رمضان ، وأقطع
جاولي الرحبة وسيره إليها ، وأقام
بالموصل يصلح أمورها ، ويقرر قواعدها ، فولى
نصير الدين دزدارية القلعة
بالموصل ، وجعل إليه سائر دزدارية القلاع ، وجعل
صلاح الدين محمدا أمير حاجب ،
وبهاء الدين قاضي قضاة بلاده جميعها ، وزاده أملاكا ، وأقطاعا ، واحتراما ، وكان لا يصدر إلا عن رأيه .
فلما فرغ من أمر
الموصل سار عنها إلى
جزيرة nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ، وبها مماليك
البرسقي ، فامتنعوا عنه ، فحصرهم وراسلهم ، وبذل لهم البذول الكثيرة إن سلموا ، فلم يجيبوه إلى ذلك ، فجد في قتالهم ، وبينه وبين البلد
دجلة ، فأمر الناس ، فألقوا أنفسهم في الماء ليعبروه إلى البلد ، ففعلوا ، وعبر بعضهم سباحة ، وبعضهم في السفن ، وبعضهم في الأكلاك ، وتكاثروا على أهل الجزيرة ، وكانوا قد خرجوا عن البلد إلى أرض بين الجزيرة
ودجلة تعرف
بالزلاقة ، ليمنعوا من يريد عبور
دجلة ، فلما عبر العسكر إليهم قاتلوهم ، ومانعوهم ، فتكاثر عسكر
عماد الدين عليهم ، فانهزم أهل البلد ، ودخلوه ، وتحصنوا بأسواره ، واستولى
عماد الدين على
الزلاقة ، فلما رأى من بالبلد ذلك ضعفوا ، ووهنوا ، وأيقنوا أن البلد يملك سلما أو عنوة ، فأرسلوا يطلبون الأمان ، فأجابهم إلى ذلك ، وكان هو أيضا مع عسكره
بالزلاقة ، فسلموا البلد إليه ، فدخله هو وعسكره .
ثم إن
دجلة زادت تلك الليلة زيادة عظيمة لحقت سور البلد ، وصارت
الزلاقة ماء ، فلو أقام ذلك اليوم لغرق هو وعسكره ولم ينج منهم أحد ، فلما رأى الناس
[ ص: 9 ] ذلك أيقنوا بسعادته ، وأيقنوا أن أمرا هذا بدايته لعظيم .
ثم سار عن الجزيرة إلى
نصيبين ، وكانت
لحسام الدين تمرتاش صاحب
ماردين ، فلما نازلها سار
حسام الدين إلى ابن عمه
ركن الدولة داود بن سقمان بن أرتق ، وهو صاحب
حصن كيفا وغيرها ، فاستنجده على
أتابك زنكي ، فوعد النجدة بنفسه ، وجمع عسكره ، وعاد
تمرتاش إلى
ماردين ، وأرسل رقاعا على أجنحة الطيور إلى
نصيبين يعرف من بها من العسكر أنه وابن عمه سائران في العسكر الكثير إليهم ، وإزاحة
عماد الدين عنهم ، ويأمرهم بحفظ البلد خمسة أيام .
فبينما
أتالك في خيمته إذ سقط طائر على خيمة تقابله ، فأمر به فصيد ، فرأى فيه رقعة ، فقرأها ، وعرف ما فيها ، فأمر أن يكتب غيرها ، يقول فيها :
إنني قصدت ابن عمي
ركن الدولة ، وقد وعدني النصرة وجمع العساكر ، وما يتأخر عن الوصول أكثر من عشرين يوما ، ويأمرهم بحفظ البلد هذه المدة إلى أن يصلوا ، وجعلها في الطائر وأرسله ، فدخل
نصيبين ، فلما وقف من بها على الرقعة سقط في أيديهم ، وعلموا أنهم لا يقدرون أن يحفظوا البلد هذه المدة ، فأرسلوا إلى
الشهيد وصالحوه ، وسلموا البلد إليه ، فبطل على
تمرتاش وداود ما كانا عزما عليه ، وهذا من غريب ما يسمع .
فلما ملك
نصيبين سار عنها إلى
سنجار ، فامتنع من بها عليه ، ثم صالحوه ، وسلموا البلد إليه ، وسير منها الشحن إلى
الخابور ، فملكه جميعه ، ثم سار إلى
حران وهي للمسلمين ، وكانت
الرها وسروج والبيرة وتلك النواحي جميعها
للفرنج ،
وأهل حران معهم في ضر عظيم ، وضيق شديد ; لخلو البلاد من حام يذب عنها ، وسلطان يمنعها ، فلما قارب
حران خرج أهل البلد وأطاعوه ، وسلموا إليه ، فلما ملكها أرسل إلى
جوسلين صاحب
الرها وتلك البلاد ، وراسله وهادنه مدة يسيرة ، وكان غرضه أن يتفرغ لإصلاح البلاد ، وتجنيد الأجناد ، وكان أهم الأمور إليه أن يعبر الفرات إلى
الشام ، ويملك مدينة
حلب وغيرها من
البلاد الشامية ، فاستقر الصلح بينهم ، وأمن الناس ، ونحن نذكر ملك
حلب ، إن شاء الله تعالى .