ذكر
ملك زنكي قلعة بعرين وهزيمة الفرنج
وفي هذه السنة في شوال سار
أتابك زنكي من
الموصل إلى
الشام ، وحصر
قلعة بعرين ، وهي تقارب
مدينة حماة ، وهي من أمنع معاقل
الفرنج ، وأحصنها ، فلما نزل عليها قاتلها وزحف إليها ، فجمع
الفرنج فارسهم وراجلهم ، وساروا في قضهم وقضيضهم وملوكهم وقمامصتهم وكنودهم إلى أتابك
زنكي ليرحلوه عن
بعرين ، فلم يرحل ، وصبر لهم إلى أن وصلوا إليه ، فلقيهم وقاتلهم أشد قتال رآه الناس ، وصبر
[ ص: 86 ] الفريقان ، ثم أجلت الوقعة عن هزيمة
الفرنج ، وأخذتهم سيوف المسلمين من كل جانب ، واحتمى ملوكهم ، وفرسانهم بحصن بعرين لقربه منهم ، فحصرهم
زنكي فيه ، ومنع عنهم كل شيء حتى الأخبار ، فكان من به منهم لا يعلم شيئا من أخبار بلادهم لشدة ضبط الطرق وهيبته على جنده .
ثم إن القسوس والرهبان دخلوا
بلاد الروم وبلاد الفرنج وما والاها مستنفرين على المسلمين ، وأعلموهم أن
زنكي إن أخذ
قلعة بعرين ومن فيها من
الفرنج ملك جميع بلادهم في أسرع وقت ، وأن المسلمين ليس لهم همة إلا قصد
البيت المقدس ، فحينئذ اجتمعت
النصرانية ، وساروا على الصعب والذلول ، وقصدوا
الشام ، وكان منهم ما نذكره .
وأما
زنكي فإنه جد في قتال
الفرنج فصبروا ، وقلت عليهم الذخيرة ، فإنهم كانوا غير مستعدين ، ولم يكونوا يعتقدون أن أحدا يقوم عليهم ، بل كانوا يتوقعون ملك باقي
الشام ، فلما قلت الذخيرة أكلوا دوابهم ، وأذعنوا بالتسليم ليؤمنهم ويتركهم يعودون إلى بلادهم ، فلم يجبهم إلى ذلك ، فلما سمع باجتماع من بقي
الفرنج ، ووصول من قرب إليهم ، أعطى لمن في الحصن الأمان ، وقرر عليهم خمسين ألف دينار يحملونها إليه ، فأجابوه إلى ذلك فأطلقهم ، فخرجوا وسلموا إليه ، فلما فارقوه بلغهم اجتماع من اجتمع بسببهم ، فندموا على التسليم حيث لا ينفعهم الندم ، وكان لا يصلهم شيء من الأخبار ألبتة ؛ فلهذا سلموا .
وكان
زنكي في مدة مقامه عليهم قد فتح
المعرة وكفرطاب من
الفرنج فكان أهلهما وأهل سائر الولايات التي بين
حلب وحماة مع
أهل بعرين في الخزي ؛ لأن الحرب بينهم قائمة على ساق ، والنهب والقتل لا يزال بينهم ، فلما ملكها أمن الناس ، وعمرت البلاد ، وعظم دخلها ، وكان فتحا مبينا ، ومن رآه علم صحة قولي .
ومن أحسن الأعمال وأعدلها ما عمله
زنكي مع
أهل المعرة ، فإن
الفرنج لما ملكوا
المعرة كانوا قد أخذوا أموالهم وأملاكهم ، فلما فتحها
زنكي الآن حضر من بقي من أهلها ومعهم أعقاب من هلك ، وطلبوا أملاكهم ، فطلب منهم كتبها ، فقالوا : إن
[ ص: 87 ] الفرنج أخذوا كل ما لنا ، والكتب التي للأملاك فيها .
فقال : اطلبوا دفاتر
حلب ، وكل من عليه خراج على ملك يسلم إليه ، ففعلوا ذاك ، وأعاد على الناس أملاكهم ، وهذا من أحسن الأفعال وأعدلها .