ذكر
حصر صلاح الدين حلب وعوده عنها وملكه قلعة حمص وبعلبك
لما ملك
صلاح الدين حماة سار إلى
حلب فحصرها ثالث جمادى الآخرة ، فقاتله أهلها ، وركب
الملك الصالح ، وهو صبي عمره اثنتا عشرة سنة ، وجمع
أهل حلب وقال لهم : قد عرفتم إحسان أبي إليكم ومحبته لكم وسيرته فيكم ، وأنا يتيمكم ، وقد جاء هذا الظالم الجاحد إحسان والدي إليه يأخذ بلدي ولا يراقب الله تعالى ، ولا الخلق ، وقال من هذا كثيرا وبكى فأبكى الناس ، فبذلوا له الأموال والأنفس ، واتفقوا على القتال دونه ، والمنع عن بلده ، وجدوا في القتال ، وفيهم شجاعة ، قد ألفوا الحرب واعتادوها ، حيث كان
الفرنج بالقرب منهم ، فكانوا يخرجون ويقاتلون
صلاح الدين عند
جبل جوشن ، فلا يقدر على القرب من البلد .
وأرسل
سعد الدين كمشتكين إلى
سنان مقدم
الإسماعيلية ، وبذل له أموالا كثيرة ليقتلوا
صلاح الدين ، فأرسلوا جماعة منهم إلى عسكره ، فلما وصلوا رآهم أمير اسمه
[ ص: 408 ] خمارتكين ، صاحب
قلعة أبي قبيس ، فعرفهم لأنه جارهم في البلاد ، كثير الاجتماع بهم والقتال لهم ، فلما رآهم قال لهم : ما الذي أقدمكم وفي أي شيء جئتم ؟ فجرحوه جراحات مثخنة ، وحمل أحدهم على
صلاح الدين ليقتله ، فقتل دونه ، وقاتل الباقون من
الإسماعيلية ، فقتلوا جماعة ثم قتلوا .
وبقي
صلاح الدين محاصرا
لحلب إلى سلخ جمادى الآخرة ، ورحل عنها مستهل رجب ، وسبب رحيله أن
القمص ريمند الصنجيلي ، صاحب
طرابلس ، كان قد أسره
نور الدين على حارم سنة تسع وخمسين وخمسمائة ، وبقي في الحبس إلى هذه السنة ، فأطلقه
سعد الدين بمائة ألف وخمسين ألف دينار صورية وألف أسير ، فلما وصل إلى بلده اجتمع
الفرنج عليه يهنئونه بالسلامة ، وكان عظيما فيهم من أعيان شياطينهم ، فاتفق أن
مري ملك
الفرنج ، لعنه الله ، مات أول هذه السنة ، وكان أعظم ملوكهم شجاعة وأجودهم رأيا ومكرا ومكيدة ، فلما توفي خلف ابنا مجذوما عاجزا عن تدبير الملك ، فملكه
الفرنج صورة لا معنى تحتها ، وتولى
القمص ريمند تدبير الملك ، وإليه الحل والعقد ، عن أمره يصدرون ، فأرسل إليه من
بحلب يطلبون منه أن يقصد بعض البلاد التي بيد
صلاح الدين ليرحل عنهم ، فسار إلى
حمص ونازلها سابع رجب ، فلما تجهز لقصدها سمع
صلاح الدين الخبر فرحل عن
حلب ، فوصل إلى
حماة ثامن رجب ، بعد نزول
الفرنج على
حمص بيوم ، ثم رحل إلى
الرستن ، فلما سمع
الفرنج بقربه رحلوا عن
حمص ، ووصل
صلاح الدين إليها ، فحصر القلعة إلى أن ملكها في الحادي والعشرين من شعبان من السنة ، فصار أكثر
الشام بيده .
ولما ملك
حمص سار منها إلى
بعلبك ، وبها خادم اسمه
يمن ، وهو وال عليها من أيام
نور الدين ، فحصرها
صلاح الدين ، فأرسل
يمن يطلب الأمان له ولمن عنده ،
[ ص: 409 ] فأمنهم
صلاح الدين ، وسلم القلعة رابع شهر رمضان من السنة المذكورة .