ذكر
ملك صلاح الدين حلب
وفي هذه السنة سار
صلاح الدين من
عين تاب إلى
حلب ، فنزل عليها في المحرم أيضا ، في
الميدان الأخضر ، وأقام به عدة أيام ، ثم انتقل إلى
جبل جوشن فنزل
[ ص: 473 ] بأعلاه ، وأظهر أنه يريد [ أن ] يبني مساكن له ولأصحابه وعساكره ، وأقام عليها أياما والقتال بين العسكرين كل يوم .
وكان صاحب
حلب عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي ، ومعه العسكر النوري ، وهم مجدون في القتال ، فلما رأى كثرة الخرج ، كأنه شح بالمال ، فحضر يوما عنده بعض أجناده ، وطلبوا منه شيئا ، فاعتذر بقلة المال عنده ، فقال له بعضهم : من يريد [ أن ] يحفظ مثل
حلب يخرج الأموال ، ولو باع حلي نسائه ، فمال حينئذ إلى تسليم
حلب وأخذ العوض منها ، وأرسل مع الأمير
طمان الياروقي ، وكان يميل إلى
صلاح الدين وهواه معه ، فلهذا أرسله فقرر قاعدة الصلح على أن يسلم
عماد الدين حلب إلى
صلاح الدين ويأخذ عوضها
سنجار ،
ونصيبين ،
والخابور ،
والرقة ،
وسروج ، وجرت اليمين على ذلك وباعها بأوكس الأثمان ، أعطى حصنا مثل
حلب ، وأخذ عوضها قرى ومزارع ، فنزل عنها ثامن عشر صفر ، تسلمها
صلاح الدين فعجب الناس كلهم من ذلك ، وقبحوا ما أتى ، حتى إن بعض عامة
حلب أحضر أجانة وماء وناداه : أنت لا يصلح لك الملك ، وإنما يصلح لك أن تغسل الثياب ، وأسمعوه المكروه .
واستقر ملك
صلاح الدين بملكها ، وكان مزلزلا ، فثبت قدمه بتسليمها وكان على شفا جرف هار ، وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له .
وسار
عماد الدين إلى البلاد التي أعطيها عوضا عن
حلب فتسلمها ، وأخذ
صلاح الدين حلب ، واستقر الحال بينهما : أن
عماد الدين يحضر في خدمة
صلاح الدين بنفسه وعسكره ، إذا استدعاه لا يحتج بحجة .
ومن الاتفاقات العجيبة أن
محيي الدين بن الزنكي ، قاضي
دمشق ، مدح
صلاح الدين بقصيدة منها :
وفتحكم حلبا بالسيف في صفر مبشر بفتوح القدس في رجب
فوافق فتح
القدس في رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ، على ما نذكره إن شاء الله تعالى .
[ ص: 474 ] ومما كتبه القاضي في المعنى عن
صلاح الدين : " فأعطيناه عن
حلب كذا وكذا ، وهو صرف على الحقيقة أخذنا فيه الدنانير وأعطيناه الدراهم ، ونزلنا عن القرى ، وأحرزنا العواصم " .
وكتب أيضا : " أعطيناه ما لم يخرج عن اليد ، يعني أنه متى شاء أخذه لعدم حصانته " .
وكان في جملة من قتل على
حلب nindex.php?page=showalam&ids=15587تاج الملوك بوري ، أخو
صلاح الدين الأصغر ، وكان فارسا شجاعا ، كريما حليما ، جامعا لخصال الخير ، ومحاسن الأخلاق ، طعن في ركبته فانفكت ، فمات منها بعد أن استقر الصلح بين
عماد الدين وصلاح الدين على تسليم
حلب قبل أن يدخلها
صلاح الدين ، فلما استقر أمر الصلح حضر
صلاح الدين عند أخيه يعوده ، وقال له : هذه
حلب قد أخذناها ، وهي لك ، فقال : ذلك لو كان وأنا حي . ووالله لقد أخذتها غالية حيث تفقد مثلي . فبكى
صلاح الدين وأبكى .
ولما خرج
عماد الدين إلى
صلاح الدين ، وقد عمل له دعوة احتفل فيها ، فبينما هم في سرور إذ جاء إنسان فأسر إلى
صلاح الدين بموت أخيه ، فلم يظهر هلعا ، ولا جزعا ، وأمر بتجهيزه سرا ، ولم يعلم
عماد الدين ومن معه في الدعوة ، واحتمل الحزن وحده لئلا يتنكر ما هم فيه ، وكان هذا من الصبر الجميل .