ذكر
فتح كوكب
لما كان
صلاح الدين يحاصر
صفد ، اجتمع من
بصور من الفرنج ، وقالوا : إن فتح المسلمون قلعة
صفد لم تبق
كوكب ، ولو أنها معلقة
بالكوكب ، وحينئذ ينقطع طمعنا من هذا الطرف من البلاد ، فاتفق رأيهم على إنفاذ نجدة لها سرا من رجال وسلاح وغير ذلك ، فأخرجوا مائتي رجل من شجعان الفرنج وأجلادهم ، فساروا الليل مستخفين ، وأقاموا النهار مكمنين .
فاتفق من قدر الله تعالى أن رجلا من المسلمين الذين يحاصرون
كوكب خرج متصيدا ، فلقي رجلا من تلك النجدة ، فاستغربه بتلك الأرض ، فضربه ليعلمه بحاله ، وما الذي أقدمه إلى هناك ، فأقر بالحال ، ودله على أصحابه .
فعاد الجندي المسلم إلى
قايماز النجمي ، وهو مقدم ذلك العسكر ، فأعلمه الخبر ، والفرنجي معه ، فركب في طائفة من العسكر إلى الموضع الذي قد اختفى فيه الفرنج ، فكبسهم ، فأخذهم ،
[ ص: 61 ] وتتبعهم في الشعاب والكهوف ، فلم يفلت منهم أحد .
فكان معهم مقدمان من فرسان
الاسبتار ، فحملا إلى
صلاح الدين وهو على
صفد ، فأحضرهما ليقتلهما ، وكانت عادته قتل
الداوية والاسبتارية لشدة عداوتهم للمسلمين وشجاعتهم ، فلما أمر بقتلهما قال له أحدهما : ما أظن ينالنا سوء وقد نظرنا إلى طلعتك المباركة ووجهك الصبيح . وكان - رحمه الله - كثير العفو ، يفعل الاعتذار والاستعطاف فيه ، فيعفو ويصفح ، فلما سمع كلامهما لم يقتلهما ، وأمر بهما فسجنا .
ولما فتح
صفد سار عنها إلى
كوكب ونازلها وحصرها ، وأرسل إلى من بها من الفرنج يبذل لهم الأمان إن سلموا ، ويتهددهم بالقتل والسبي والنهب إن امتنعوا ، فلم يسمعوا قوله ، وأصروا على الامتناع ، فجد في قتالهم ، ونصب عليهم المجانيق ، وتابع رمي الأحجار إليهم ، وزحف مرة بعد مرة .
وكانت الأمطار كثيرة ، لا تنقطع ليلا ولا نهارا ، فلم يتمكن المسلمون من القتال على الوجه الذي يريدونه ، وطال مقامهم عليها .
وفي آخر الأمر زحفوا إليها دفعات متناوبة في يوم واحد ، ووصلوا إلى باشورة القلعة ، ومعهم النقابون والرماة يحمونهم بالنشاب عن قوس اليد والجروخ ، فلم يقدر أحد منهم أن يخرج رأسه من أعلى السور ، فنقبوا الباشورة فسقطت ، وتقدموا إلى السور الأعلى ، فلما رأى الفرنج ذلك أذعنوا بالتسليم ، وطلبوا الأمان فأمنهم ، وتسلم الحصن منهم منتصف ذي القعدة ، وسيرهم إلى
صور ، فوصلوا إليها .
واجتمع بها من شياطين الفرنج وشجعانهم كل صنديد ، فاشتدت شوكتهم ، وحميت جمرتهم ، وتابعوا الرسل إلى من
بالأندلس وصقلية وغيرهما من جزائر البحر يستغيثون ويستنجدون ، والأمداد كل قليل تأتيهم ، وكان ذلك كله بتفريط
صلاح الدين في إطلاق كل من حصره ، حتى عض بنانه ندما وأسفا حيث لم ينفعه ذلك .
واجتمع للمسلمين بفتح
كوكب وصفد من حد
أيلة إلى أقصى أعمال
بيروت ، لا يفصل بينه غير مدينة
صور ، وجميع أعمال
أنطاكية سوى
القصير ، ولما ملك
صلاح الدين صفد سار إلى
البيت المقدس ، فعيد فيه عيد الأضحى ، ثم سار منه إلى
عكا ، فأقام بها حتى انسلخت السنة .