ذكر
ملك الفرنج عكا
في يوم الجمعة ، سابع عشر جمادى الآخرة ، استولى الفرنج - لعنهم الله - على مدينة
عكا ، وكان أول وهن دخل على من بالبلد أن
الأمير سيف الدين علي بن أحمد الهكاري المعروف بالمشطوب ، كان فيها ، ومعه عدة من الأمراء كان هو أمثلهم وأكبرهم ، خرج إلى ملك
إفرنسيس وبذل له تسليم البلد بما فيه على أن يطلق المسلمين الذين فيه ، ويمكنهم من اللحاق بسلطانهم ، فلم يجبه إلى ذلك ، فعاد
علي بن أحمد إلى البلد ، فوهن من فيه ، وضعفت نفوسهم ، وتخاذلوا ، وأهمتهم أنفسهم .
ثم إن أميرين ممن كان
بعكا ، لما رأوا ما فعلوا بالمشطوب ، وأن الفرنج لم
[ ص: 96 ] يجيبوا إلى الأمان ، اتخذوا الليل جملا . وركبوا في شيني صغير ، وخرجوا سرا من أصحابهم . ولحقوا بعسكر المسلمين ، وهم
عز الدين أرسل الأسدي ،
وابن عز الدين جاولي ، ومعهم غيرهم ، فلما أصبح الناس ورأوا ذلك ازدادوا وهنا إلى وهنهم . وضعفا إلى ضعفهم ، وأيقنوا بالعطب .
ثم إن الفرنج أرسلوا إلى
صلاح الدين في معنى تسليم البلد فأجابهم إلى ذلك ، والشرط بينهم أن يطلق من أسراهم بعدد من في البلد ليطلقوا هم من
بعكا ، وأن يسلم إليهم صليب الصلبوت .
فلم يقنعوا بما بذل ، فأرسل إلى من
بعكا من المسلمين يأمرهم أن يخرجوا من
عكا يدا واحدة ، ويسيروا مع البحر ، ويحملوا على العدو حملة واحدة ، ويتركوا البلد بما فيه ، ووعدهم أنه يتقدم إلى تلك الجهة التي يخرجون منها بعساكره ، يقاتل الفرنج فيها ليلحقوا به ، فشرعوا في ذلك ، واشتغل كل منهم باستصحاب ما يملكه ، فما فرغوا من أشغالهم حتى أسفر الصبح ، فبطل ما عزموا عليه لظهوره .
فلما أصبحوا عجز الناس ، عن حفظ البلد ، وزحف إليهم الفرنج بحدهم وحديدهم ، فظهر من بالبلد على سوره يحركون أعلامهم ليراها المسلمون .
وكانت هي العلامة إذا حزبهم أمر ، فلما رأى المسلمون ذلك ضجوا بالبكاء والعويل ، وحملوا على الفرنج من جميع جهاتهم ظنا منهم أن الفرنج يشتغلون عن الذين
بعكا ،
وصلاح الدين يحضهم وهو في أولهم .
وكان الفرنج قد زحفوا من خنادقهم ومالوا إلى جهة البلد ، فقرب المسلمون من خنادقهم ، حتى كادوا يدخلونها عليهم ويضعون السيف فيهم ، فوقع الصوت فعاد الفرنج ومنعوا المسلمين ، وتركوا في مقابلة من بالبلد من يقاتلهم .
فلما رأى المشطوب أن
صلاح الدين لا يقدر على نفع ، ولا يدفع عنهم ضرا خرج إلى الفرنج ، وقرر معهم تسليم البلد وخروج من فيه بأموالهم وأنفسهم ، وبذل
[ ص: 97 ] لهم عن ذلك مائتي ألف دينار وخمسمائة أسير من المعروفين ، وإعادة صليب الصلبوت وأربعة عشر ألف دينار
للمركيس صاحب
صور ، فأجابوه إلى ذلك ، وحلفوا له عليه ، وأن تكون مدة تحصيل المال والأسرى إلى شهرين .
فلما حلفوا له سلم البلد إليهم ودخلوه ، سلما فلما ملكوه غدروا واحتاطوا على من فيه من المسلمين وعلى أموالهم ، وحبسوهم ، وأظهروا أنهم يفعلون ذلك ليصل إليهم ما بذل لهم ، وراسلوا
صلاح الدين في إرسال المال والأسرى والصليب ، حتى يطلقوا من عندهم ، فشرع في جمع المال ، وكان هو لا مال له ، إنما يخرج ما يصل إليه من دخل البلاد أولا بأول .
فلما اجتمع عنده من المال مائة ألف دينار جمع الأمراء واستشارهم ، فأشاروا بأن لا يرسل شيئا حتى يعود فيستحلفهم على إطلاق أصحابه ، وأن يضمن
الداوية ذلك ، لأنهم أهل تدين يرون الوفاء ، فراسلهم
صلاح الدين في ذلك ، فقال
الداوية : لا نحلف ولا نضمن لأننا نخاف غدر من عندنا .
وقال ملوكهم : إذا سلمتم إلينا المال والأسرى والصليب فلنا الخيار فيمن عندنا فحينئذ علم
صلاح الدين عزمهم على الغدر ، فلم يرسل إليهم شيئا ، وأعاد الرسالة إليهم ، وقال : نحن نسلم إليكم هذا المال والأسرى والصليب ، ونعطيكم رهنا على الباقي وتطلقون أصحابنا ، وتضمن
الداوية الرهن ، ويحلفون على الوفاء لهم .
فقالوا : لا نحلف ، إنما ترسل إلينا المائة ألف دينار التي حصلت ، والأسرى ، والصليب ، ونحن نطلق من أصحابكم من نريد ونترك من نريد حتى يجيء باقي المال ، فعلم الناس حينئذ غدرهم ، وإنما يطلقون غلمان العسكر والفقراء
والأكراد ومن لا يؤبه له ، ويمسكون عندهم الأمراء وأرباب الأموال ، ويطلبون منهم الفداء فلم يجبهم السلطان إلى ذلك .
فلما كان يوم الثلاثاء السابع والعشرين من رجب ، ركب الفرنج ، وخرجوا إلى ظاهر البلد بالفارس والراجل ، وركب المسلمون إليهم وقصدوهم ، وحملوا عليهم ، فانكشفوا عن موقفهم ، وإذا أكثر من كان عندهم من المسلمين قتلى قد وضعوا فيهم السيف وقتلوهم ، واستبقوا الأمراء والمقدمين ومن كان له مال ، وقتلوا من سواهم من
[ ص: 98 ] سوادهم وأصحابهم ومن لا مال له ، فلما رأى
صلاح الدين ذلك تصرف في المال الذي كان جمعه ، ورد الأسرى والصليب إلى
دمشق .